هل ليس لدى لبنان رجال دولة يمكن أن يساعدوا في انتشاله من أزمته الراهنة؟ للوهلة الأولى يمكن أن نجيب بـ «لا»، ثم نتأكد حين نستعرض «النخبة السياسية المضادة» التي تقف في وجه «النخبة الحاكمة» الموزعة على مختلف الطوائف.
فإذا كانت هناك نخبة قد تبوأت مقاعد السلطة، سواء في البرلمان أو الوزارة يوجد من يقابلها، وهم أولئك الذين يخسرون في المنافسة الانتخابية على مقاعد مجلس النواب، والذين يتم تجاوزهم عند تشكيل الحكومات، وكذلك بارزون ووجهاء لم يتم تجريبهم من قبل. وهؤلاء يشكلون نخبة قوية في وجه النخبة الحاكمة، حيث يمتلكون ذات المقدرات من التأييد والدعم المحلي والتمرس في العمل السياسي العام، وامتلاك الثروة والتاريخ. ورغم أن الحكومات المشكلة دائماً تراعي مسألة احتواء أصحاب النفوذ، وترضية الطوائف، إلا أن الحياة السياسية اللبنانية مليئة بالمتذمرين والمتمردين، لذا ليس من الغريب أو الجديد أن تجد عقب كل تشكيل وزاري مجموعة ترفض وتعارض بشدة، وهي ليست من أولئك الذين تم استبعادهم فقط، بل أيضاً من بين الوزراء أنفسهم الذين لا يرضون عن حقائبهم، وكانوا يطمحون في حقائب أعلى وأكبر. وهؤلاء بوسعهم أن يجدوا في ركاب الغضب الشعبي المتصاعد، ما يحملهم إلى حيث يريدون.
في العموم، فإن نشاط النخبة السياسية في لبنان، سواء الحاكمة أو المضادة جعل الحياة السياسية هناك مليئة بالحركة ومتيمة بالتغيير، ومجلس النواب ينتقل عدد أعضائه من 55 إلى 66 إلى 77، ثم يهبط إلى 44، ويرتفع إلى 66 ويقفز إلى 99، ويستمر هكذا من عام 1960 حتى بعد انتهاء الحرب الأهلية فيقفز إلى 108 أعضاء، ثم أخيراً 128 عضواً. فالطوائف تزيد وتبرز قوة بعضها، ولذا لابد من أن يتم التنفيس عن هذه القوة بتوزيع الأعداد والمناصب والأدوار وإلا حدث الانفجار، بل إن هذا الانفجار كان محتوماً فاندلعت الحرب الأهلية، وشوهت صورة لبنان الاجتماعية، ولطخت جدرانه بدماء أبنائه. ويكفي أن نقرأ رواية الأدبية اللبنانية رجاء نعمة «كانت المدن ملونة» لنعرف القدر الهائل من المعاناة والإحباط والتفسخ الاجتماعي الذي أصاب لبنان في هذه الحرب.
وازداد الأمر سوءاً حين دهمت قوات إسرائيل لبنان الجريح عام 1982 فافترست جزءاً منه، واقتطعت بعض نخبته السياسية بجماهيرها، فجيشت منها جنوداً عملاء. ولم يطق الشاعر الفذ خليل حاوي، أحد أبرز وجوه النخبة المثقفة هذه المفارقة، فانتحر احتجاجاً على أداء هذه النخبة المتصارعة، التي أورثت لبنان الخراب والاحتلال.
بعد الطائف قفزت ثلاث قضايا دارت حولها النخبة السياسية اللبنانية في أدائها وتحسب حسابها في تنافسها، وهي: تحرير الأرض السليبة، وإعمار البلاد المخربة، والحد من صراع الطائفية المرذول، وستظل هذه القضايا تؤرق النخبة السياسية اللبنانية في المستقبل المنظور. وبينما نجحت في الأولى، حين انسحبت إسرائيل عام 2000 من طرف واحد، فإن مسار الإعمار تعثر بسبب الفساد، وتعمقت الطائفية الصامتة، وزاد الاستقطاب السياسي، وصارت لبنان ساحة لتصفية صراعات إقليمية ودولية، وضعف الولاء للدولة.
اليوم يعيش لبنان غلياناً أشد، فبينما كانت تداعيات انتفاضة أكتوبر الماضي لا تزال سارية جارية وقع انفجار مرفأ بيروت، وسط أزمة اقتصادية طاحنة، ومخاوف أمنية عميقة، فاستقالت الحكومة أو أُقيلت، وتعالت الدعوات إلى إجراء انتخابات نيابية، وفي ركابها هناك فقدان ثقة في النخبة السياسية الحاكمة واتهام لها بأنها مصابة بمرض طائفي مزمن يغلفه فساد وقلة كفاءة إدارية، ولهذا فإن السعي سيزيد مستقبلاً وراء نخبة مضادة، لن يكون بمقدورها، إن تقدمت في الحياة السياسية، أن تعالج المشكلات المطروحة، وأولها الطائفية، بين يوم وليلة، لكنها قد تنجح في إنقاذ لبنان من الانهيار عبر فوضى أو حرب أهلية جديدة، لا قدر الله.