تشهد حملة انتخابات الرئاسة الأميركية المقبلة ظواهر لم تكن مألوفة في سابقاتها. ويبدو أنها ستكون انتخابات غير تقليدية، أو خارج الصندوق إذا جاز التعبير، خاصة على صعيد الاصطفاف في الحزبين «الجمهوري» و«الديمقراطي».
التغيير الذي أحدثه ترامب في صورة الرئاسة الأميركية، منذ أن دخل البيت الأبيض في 21 يناير 2017، يمتد الآن إلى الانتخابات التي يخوضها سعياً إلى ولاية ثانية. لا يروق هذا التغيير لقطاع من أعضاء الحزب الجمهوري ومسؤولين في إدارات سابقة. وقد بدأ هؤلاء في إعلان «تمردهم» الانتخابي الكامل عبر التعبير عن نيتهم انتخاب المرشح «الديمقراطي» جو بايدن، وليس ترامب.
«دفعة 43 من أجل بايدن» ليست المجموعة الوحيدة التي تضم سياسيين «جمهوريين» أعلنوا مساندة بايدن. تضم هذه المجموعة عدداً من المسؤولين الذين تولوا مناصب تنفيذية في إدارة الرئيس جورج بوش الابن. ومن هنا جاء رقم 43 في اسمها، نسبة إلى ترتيب هذا الرئيس بين رؤساء الولايات المتحدة. 
ولم يكن هذا «التمرد» الانتخابي مستبعداً، في ضوء طبيعة العلاقة بين ترامب والحزب الجمهوري. فالمعتاد أن يكون التوافق كبيراً بين الرئيس وحزبه. لكن الوضع اختلف في عهد ترامب. فقد أصبحت العلاقة أكثر تعقيداً بين الرئيس وفريقه في الإدارة في ناحية، والحزب الجمهوري وأعضائه في مجلسي الكونجرس في الناحية الثانية. تبدو هذه العلاقة كما لو أنها تحالف بين الطرفين، وليست علاقة عضوية، وفق النمط المعتاد، عندما يكون الرئيس قادماً من أوساط النخب التقليدية في الحزب.
وقد سعى ترامب، من جانبه، إلى تيسير هذا التحالف عبر استبعاد عدد من معاونيه الذين كان صعباً قبولهم لدى الاتجاه الغالب في الحزب الجمهوري، بمن فيهم مهندس مواقفه القومية الشعبوية ستيف بانون الذي لم يستمر أكثر من سبعة أشهر في منصب كبير مستشاري الرئيس الاستراتيجيين. لكن هذه الفترة تبدو طويلة مقارنةً، على سبيل المثال، بتلك التي أمضاها مايكل فيلين في منصب مستشار الأمن القومي، ولم تتجاوز 22 يوماً.
كما حاول ترامب الاستعانة بأشخاص كان لهم دور معتبر في الحزب الجمهوري، لكنهم لم يصمدوا لعدم قدرتهم على التكيف مع أجواء البيت الأبيض، مثل أنتوني سكار أموتش الذي شغل منصب مدير الاتصالات، وهو الذي كان رئيساً للجنة الوطنية للجمهوريين.
وربما تكون هذه العلاقة غير العضوية مفهومة، لأن ترامب جاء من خارج صفوف الحزب الجمهوري، بخلاف حالة بايدن الذي أمضى حياته السياسية في الحزب الديمقراطي، وكان نائباً للرئيس السابق باراك أوباما. ورغم ذلك، يواجه بايدن بدوره بوادر «تمرد» انتخابي في حزبه. فقد أربك موقف إدارة ترامب تجاه المسألة الاجتماعية بعض أعضاء الحزب الديمقراطي وناخبيه التقليديين الذين يؤيدون زيادة الإنفاق الاجتماعي، والاهتمام بالفئات الأدنى والأضعف في المجتمع. فقد فاجأهم اهتمام إدارة ترامب بهذه الفئات التي أصابتها تداعيات أزمة كورونا في لقمة عيشها، إذ خصصت مئات مليارات الدولارات، منذ بداية هذه الأزمة، في أكبر عملية إنقاذ اجتماعي في تاريخ الولايات المتحدة. 
ويبدو أن كوادر الحزب الديمقراطي وناخبيه، الذين فاجأتهم سياسة إدارة ترامب هذه، قارنوها بأداء إدارة أوباما في أزمة 2008 المالية الكبرى، إذ خصصت مئات المليارات أيضاً، لكن لإنقاذ البنوك والمؤسسات المصرفية والمالية الكبرى، وهي التي كانت المسؤول الأول عن تلك الأزمة، بسبب إساءة استخدام الرهون العقارية عالية المخاطر، وتجاهلت الملايين من عملاء تلك البنوك والمؤسسات، ممن فقدوا بيوتهم بسبب الرهن. 
صحيح أن بعض الأموال التي أنفقتها إدارة ترامب ذهبت في غير محلها، وفق تقديرات أولية، بسبب تسهيل القواعد التي تتبعها البنوك في مجال الإقراض، بما في ذلك بعض الإجراءات الخاصة بقياس مخاطر الائتمان. ولكن المهم أن الإدارة التي عارضوها أعطت الإنفاق الاجتماعي أولوية متقدمة، وهي المنحازة اجتماعياً للأثرياء، في حين أن إدارة سابقة أيدوها وعلقوا عليها الآمال، حرصت قبل كل شيء على إنقاذ البنوك والمؤسسات المصرفية، وليس ضحاياها. وتفيد المؤشرات المتوفرة حتى الآن، أن الكثير من هؤلاء لن يذهبوا إلى صناديق الاقتراع، وسيكون لغيابهم أثر يصعب تقدير حجمه الآن في رصيد بايدن الانتخابي، رغم أنهم لن ينتخبوا ترامب أيضاً.
«التمرد» الانتخابي، إذن، ليس مقصوراً على حزب ترامب، بل يشمل الحزبين. ومازالت الأيام التسعون الباقية حتى موعد الانتخابات حبلى بتغيرات يُرجح أن تجعلها خارج الصندوق.