تميز عصر الصناعة بصعود منظومة من المهن «النبيلة» التي تعتمد على معرفة معقدة ومتقدمة، مثل الطب والهندسة والتعليم والمحاسبة والمحاماة والقضاء والصيدلة والتمريض والصحافة، ونهض قادة هذه المهن من خلال النقابات وإعادة التنظيم الاجتماعي والأخلاقي للأمم بالمؤسسات والأسواق والقيم والثقافة.
وبدأت المهن والوظائف خدمات معرفية إضافية كان يقدمها المثقفون، إضافة إلى عملهم الأساسي في الزراعة أو التجارة أو الحرف والمهن المحيطة بهما.. ثم فرغتهم المجتمعات لوظائفهم النبيلة في التعليم والإرشاد والقيادة، بفضل الوفرة التي أمكن تحقيقها.. ثم تحولت إلى مهن تنظمها النقابات، ثم أُنشئت لأجلها الجامعات.
والمسألة يمكن وصفها ببساطة كما يلي: عندما تنشئ المعرفة أعمالاً وموارد اقتصادية، مثل تطوير الأعمال وتفعيلها أو قابليتها لجذب المال أو أن تكون خدمة أو سلعة مطلوبة في السوق والحياة، تتحول إلى مهن ووظائف. هكذا تكرست مهن القضاء والمحاماة والطب والمحاسبة والتعليم. فقد نشأت أسواق هائلة غيّرت الحياة حول العلوم والتكنولوجيا وأنشأت بطبيعة الحال مهناً وطبقات جديدة، وكان عصر الصناعة بامتياز هو عصر الطبقة الوسطى، العصر الذي جعل في مقدور مَن يتعلم أو يبدع أو يغامر أن يرتقي في المجتمع ويكسب موارده ويطور حياته.
وتطورت الفلسفة والآداب والفنون والموسيقى في قصور النبلاء والارستقراطيين. وهم أيضاً أسسوا ورعوا الدراسات الجامعية في هذه المجالات. كان الغناء والعزف والشعر من الأعمال والوظائف المهمة والنبيلة في المجتمعات والأسواق. ورغم أن الطبقات الوسطى والبورجوازية ورثت الارستقراطيات فإنها لم تواصل اهتمامها بالفلسفة والآداب والفنون، بل حولتها إلى معارف ومهن هامشية، وشهدت الحياة الاقتصادية والثقافية انقساماً حاداً بين المعارف الإنسانية وبين العلوم، وسادت فكرة أن العالم لم يعد في حاجة إلى الفلسفة والآداب والفنون إلا على سبيل الترفيه أو إضافة مسحة من الجمال على الحياة.. وصارت فقط لأوقات الفراغ!
‏ وقبل ذلك ‏كان رجل الدين هو أيضاً المعلم والطبيب والقاضي والمرشد الزراعي، وكانت الجامعات في مبتدأ تأسيسها وعملها لأجل التعليم الديني. وهكذا نشأت في العصور الوسطى جامعات مثل الأزهر والقرويين والزيتونة وبولونيا واكسفورد وكامبريدج، ويعود تاريخ مئات الجامعات العريقة والمهمة اليوم إلى رواية دينية.
وماذا يمكن أو يتوقع أن تُغير الموارد والتكنولوجيات الجديدة (الثورة الصناعية الرابعة) في الأعمال والمهن المعرفية؟ إن التكنولوجيا الجديدة باستهدافها المعرفة مجالاً لها، حتى إنها تسمى تكنولوجيا المعرفة، ويسمى العصر أيضاً عصر اقتصاد المعرفة، تَغيّر على نحو جوهري في الأعمال والمهن والمؤسسات المعرفية. وهكذا تختفي أعمال ومهن وتظهر أعمال أخرى، وتتغير فئة ثالثة تغيراً كبيراً وإن بقيت مستمرة.
لقد ساعدتنا كثيراً جائحة كوفيد-19 في تخمين ما يبقى وما يزول وما يتغير من الأعمال والمؤسسات والأفكار والقيم، إذ تبدو في طريق الانحسار أو التحول أعمال الدراما والسينما والمسرح والتسويق وإدارة الأعمال والتعليم والطب والإدارة، وبطبيعة الحال يتغير التعليم والتدريب في هذه المجالات والتخصصات الجامعية أو التدريبية، ثم تتغير طبيعة عمل المؤسسات وتنظيمها.
وتصعد اليوم على نحو سريع المعرفة والمهارات في تطوير وتنظيم وتهيئة وأمن الشبكات، لتكون مجالاً فاعلاً للعمل والتعليم والتسويق. ولحل المشكلات والتحديات التي تواجه العمل والتعليم الشبكي، ويتوقع أن تصعد الأعمال والتخصصات المرتبطة بإعادة تنظيم المدن والأحياء والبيوت والمؤسسات والمرافق العامة لتلائم الاتجاهات الجديدة في العمل والحياة. فالبيوت تتحول إلى ورش عمل وتعليم، والأحياء تنكفئ لتكون أكثر خصوصية وهدوءاً للمساعدة في أسلوب الحياة الجديد، ولتعوض الأطفال والناس ما خسروه من فرص التواصل الاجتماعي والعمل معاً. وتزيد الحاجة إلى الطب الوقائي والرعاية الصحية الأولية، في حين تتحول الجراحة والاستشارات والتحاليل الطبية إلى عمل آلي أو أقرب إلى ذلك.

*كاتب أردني