عندما أصدر الأديب الفرنسي «ألبير كامو» روايته الشهيرة «الطاعون»، اعتبرت الرواية رمزاً للحرب العالمية الثانية التي مثل لها باستعارة الوباء، في حين استخدم العديد من الزعماء السياسيين والمسؤولين استعارة «الحرب» لمواجهة وباء كورونا الذي يواجهه العالم منذ شهور.
علاقة الوباء بالحرب ليست بديهية، إذ الأمر يتعلق بظاهرة صحية يديرها الأطباء وعلماء الفيروسات، إلا أن مشاهد الحجر والإغلاق والرقابة الشاملة تذكر فعلاً بمشاهد الحروب، رغم غياب الجيوش والأسلحة. 
مفهوم الحرب، هنا، يحيل لسياقين دلاليين متمايزين، يتعلق أحدهما بنمط الفعل السياسي العمومي، وثانيهما بالتصور الإبستمولوجي للممارسة الطبية وآثارها الاجتماعية العامة. 
ما يجمع بين الدلالتين، هو النموذج العلمي الموضوعي الذي أصبح الإطار النظري والمرجع لنمطين من «الفن» العملي، وفق التصور اليوناني القديم: السياسة من حيث هي علم للحرب والسلم، والطب من حيث هو علاج لاختلالات الجسم. 
وبحسب التصورات الفلسفية اليونانية والوسطية، لا ينظر للسياسة بكونها علماً لأنها تتعلق بالجوانب العرضية الاحتمالية في الوضع الإنساني، ولا ينظر للطب من الخلفية نفسها، كعلم دقيق، لأنه فن يعتمد على الحدس ومسالك تدبير النفس، لا على الصياغة الصورية الكلية، أو التجريب الاختباري المفضي للاستقراء الصحيح. 
ومع العصور الحديثة، برز اتجاهان متزامنان، هما: تحويل السياسة إلى علم قانوني إداري يقوم على معايير كلية موضوعية، وتحويل الطب إلى علم تجريبي، على غرار العلوم الطبيعية، حتى لو كان موضوعه هو الظاهرة الإنسانية. 
النتيجة الكبرى لتحويل السياسة إلى علم قانوني، هي بناء نظرية ملزمة للشرعية السياسية، تقيد سلطة قرار الحاكم، ووضع آليات عقلانية بيروقراطية لإدارة المجموعة السكانية، بحيث ينتفي مفهوم الحرب من المعجم السياسي، وتصبح حالة استثنائية مختزلة في الوضع الدفاعي. السياسة من هذا المنظور، هي تطبيق لنصوص تنظيمية كلية ومجردة، وإدارة للمجتمع المدني حسب معايير وإجراءات دقيقة ناجعة وضعها علماء القانون والاقتصاد، فلا يبقى عملياً مضمون حقيقي لحرية الاختيار في الاعتبارات الجوهرية، رغم المرجعيات الديمقراطية المعلنة.
أما النتيجة الكبرى للتقنين التجريبي الوضعي للطب، فهي تمديد أدوات الملاحظة المخبرية والتعميم الرياضي الكمي على المناهج الطبية، بحيث تلغى الحواجز التقليدية بين المادة الإنسانية الحية والمادة الطبيعية الجامدة، إلى حد أن أحد آباء الطب الحديث، وهو كلود برنار، من طرح فكرة استيراد مقولة تعنيف الطبيعة من القاموس الفيزيائي، إلى القاموس البيولوجي.
وإذا كانت الأزمات السياسية والاستراتيجية الكبرى، التي لا ينفك العالم يعرفها، تحمل السياسة إلى الرجوع لمنطق القرار السيادي الحر والتشريع الاستثنائي حتى في البلدان الديمقراطية العريقة، فإن موجات الأوبئة الفيروسية العالمية ترجع الطب إلى وضع الممارسة الإنسانية المعقدة، التي يلتقي فيها البعد العلمي التجريبي بالأبعاد الوجودية والاجتماعية. 
وخلال موجة كورونا الأخيرة، ظهر الاتجاهان بتعليق النظم القانونية للفعل السياسي، وإعلان حالة الطوارئ الاستثنائية، من منطلق الضرورات الطبية وحماية السكان من الفيروس القاتل، وببروز علماء الطب عاجزين عن التعامل الرياضي التجريبي في محاصرة ومواجهة الجائحة، بما عكسه التباين الواسع في ما بينهم في التشخيص والتنبؤ ومقاربة العلاج.
ويبين عالم الرياضيات «أوليفييه راي» أن الدوائر الطبية تعيش الآن نقاشاً مماثلاً للجدل الذي اندلع في القرن الثامن عشر بين الأطباء حول وباء الجدري، بين اتجاه إحصائي تجريبي واتجاه إنساني ذاتي. ففي حين ذهب وقتها عالم الرياضيات «دانيال برنولي» إلى أن تعميم التلقيح يمكن أن يفضي إلى زيادة نسبة أمل الحياة في المجتمع بثلاث سنوات، رغم ما يمكن أن يفضي إليه من مضار شخصية لبعض الأفراد، اعتبر العالم الفيزيائي «دي لامبير» أن هذا المنهج لا يقيم شأناً لنوازع ومشاعر الأفراد وخصوصيات تجاربهم المعيشة. 
ويتكرر النقاش، اليوم، بالاختلاف الواضح بين مدرسة الصناعة الطبية، بالاعتماد على الثورة الجينية والذكاء الاصطناعي، بما يفضي إلى تحويل الطب إلى نمط من «الفيزياء الحيوية» ومدرسة «الطب المتشخص»، التي تدعو إلى النظر لكل فرد في خصوصياته الذاتية والنفسية. 
لقد دخل عالم الفيروسات الفرنسي المثير للجدل «ديديه راوول» على الخط، عندما اعتبر أن الأزمة الصحية الراهنة تفرض على علماء الطب العودة إلى مبدأ التشكك والارتياب، الذي هو المنهج العلمي الصحيح، مستشهداً بكلام الفيلسوف الألماني هوسرل، حول النماذج العلمية التي يتعين اعتبارها «أثواباً للأفكار»، ويمكن دوماً العثور على نموذج يمنح الاعتقاد بأن الفكرة صحيحة، حتى لو كان الأمر يتعلق بمجرد تخمين مفيد وافتراض خصب.