يواجه الأمن الوطني للدول المختلفة في عالم اليوم تحديات غير مسبوقة، ليس من حيث عددها، أو حتى تنوعها فقط، وإنما درجة خطورتها وتعقيداتها أيضاً؛ حيث أصبح، بشكل غير مسبوقٍ، عرضة لتأثر الكثير من العوامل؛ ويدخل في حساباته العديد من المعطيات؛ فلم يعد مفهوم الأمن الوطني يقتصر على الأبعاد العسكرية، أو الأمنية، أو حتى الاقتصادية، كما هو متعارف عليه؛ وإنما توسع بشكل كبير ليشمل جوانب اجتماعية وبيئية وتقنية ورقمية، وحتى صحية؛ حيث فرضت جائحة فيروس كورونا المستجد (كوفيد-19) تحديات جديدة جعلتنا نعيد النظر في هذا المفهوم؛ ليشمل جوانب لم تكن حتى عهد قريب تحظى بالكثير من الاهتمام؛ وأهمها بالطبع الأمن الصحي أو الطبي؛ وكل ما يتعلق به من تقدُّم علمي وقدرة على الاستجابة الفعَّالة للمستجدات الطارئة، التي قد تحدث تداعيات خطيرة غير متوقَّعة. 

الأمن الوطني في عالم متغير
حظي الأمن على مدار التاريخ باهتمام كبير في حياة الأفراد والمجتمعات؛ حيث لا يمكن للحياة أن تستمر أو تستقر من دون الأمن؛ وكانت هناك مفاهيم مختلفة للأمن، لكنه بشكل عام بقي يتمحور حول الاستقرار والعيش بسلام ومن دون خوف أو تهديد؛ وبقي المفهوم فترات طويلة مرتبطاً بالقدرة على صد التهديدات الخارجية؛ ولذلك كان يقتصر على الأبعاد العسكرية والأمنية، حيث بقي يشير إلى قدرة الدولة على حماية حدودها وأمنيها الداخلي والخارجي من أي تهديد عسكري؛ ولذلك كان من الطبيعي في السابق أن يشير مفهوم الأمن الوطني إلى الأحداث والتطورات العسكرية والأمنية، بما فيها الصراعات المسلحة، وتوازنات القوى على الصعيدين الإقليمي والدولي. 
ولكن مفهوم الأمن الوطني شهد تطوراً كبيراً خلال العقود القليلة السابقة؛ وخاصة مع تزايد أهمية الاقتصاد في بناء قوة الدولة، ودوره المتنامي في العلاقات بين الدول؛ حيث تطور حتى أصبح الاقتصاد بمفهومه الشامل عنصراً مهماً من عناصر تحقيق الأمن القومي للدول؛ حيث يتأثر البعد العسكري والأمني قطعاً بقوة الاقتصاد الوطني، الذي يؤثر بدوره في حجم الإنفاق في هذا المجال، والقدرة على تحديث الترسانة العسكرية؛ ومع التطور الذي شهده العالم في المجالات المختلفة، وتشابك المصالح بين الدول نتيجة للعولمة؛ توسَّع هذا المفهوم ليشمل عناصر كثيرة من بينها، على سبيل المثال، توفير المياه والغذاء والأمن البيئي، وظهرت مصطلحات مهمة مرتبطة بالأمن الوطني، وجزء لا يتجزأ منه، من قبيل الأمن المائي والأمن الغذائي.
ومع الاهتمام المتزايد بالبيئة على المستوى العالمي، خاصة مع تنامي ظاهرة الاحتباس الحراري وتداعياتها على العديد من أوجه الحياة الإنسانية، بما فيها الاقتصادية والزراعية وغيرها من القطاعات التي تأثرت بالتغييرات المناخية، والمخاوف التي أثارها الخبراء من التداعيات المستقبلية لهذه الظاهرة على الحياة البشرية - أصبح الأمن البيئي مرتكزاً مهماً من مرتكزات الأمن الوطني. 
ومؤخراً أصبح ما يمكن تسميته الأمن الصحي مكوناً مهماً في تحقيق الأمن الوطني؛ حيث أظهر تفشي فيروس كورونا المفاجئ، وتداعياته الكارثية على مختلف جوانب الحياة، أهمية امتلاك الدولة ليس قدرات متطورة في المجال الطبي فقط، وإنما صناعات طبية أيضاً؛ حتى تتمكن من التصدي لأي وباء أو جائحة؛ حيث لا ينفع معها مطلقاً القدرات العسكرية مهما عظمت، ولا حتى الاقتصادية؛ بل يصبح الاقتصاد أول ضحاياها. ومن ثمَّ؛ فإن مفهوم الأمن الوطني أصبح أكثر شمولية، ويتضمَّن عناصر عسكرية واقتصادية واجتماعية وصحية وحتى ثقافية؛ حيث أصبحت الدول تَعُدُّ الكثير من القضايا مسائل أمن وطني أو قومي. 
ومن هنا؛ فإن مفهوم الأمن الوطني توسع جداً، وأصبح يشير إلى كل ما تتمتع به الدولة من قدرات وموارد، تمكنها من حماية نفسها وحدودها والدفاع عن مصالحها، وحتى قيمها، من التهديدات الخارجية والداخلية، ومنها القدرات العسكرية والاقتصادية والصناعية والأمنية والثقافية والتعليمية والرقمية والتقنية، وبالطبع القوة البشرية التي هي محور هذه القدرات كلها، ومحركها. 

التحديات التي تواجه الأمن الوطني 
هناك مصادر متعددة تهدد الأمن الوطني لأي دولة؛ منها ما هو خارجي، ومنها ما هو داخلي، وهناك أيضاً ما هو متداخل بينهما. وعادة ما يتم تصنيف التحديات أو التهديدات وفقاً لمعايير مختلفة؛ ولكن بشكل عام هناك تهديدات تقليدية مثل الحروب العسكرية، وأخرى غير تقليدية مثل الحروب الرقمية، أو ما يسمّى التهديد السيبراني.
ويواجه الأمن الوطني الإماراتي تحديات غير مسبوقة؛ وسط حالة من عدم الاستقرار الإقليمي والدولي، مع تفاقم العديد من النزاعات وتعقدها مع تناقض مصالح القوى المنخرطة فيها، سواء كانت محلية، أو إقليمية، أو دولية؛ وفيما يلي أهم التحديات التي تواجه الأمن الوطني لدولة الإمارات العربية المتحدة خلال المرحلة الراهنة:
أولاً- النزاعات الإقليمية: من أكثر ما يهدد الأمن الوطني لدولة الإمارات، وبالطبع الأمن القومي العربي عموماً، الصراعات المسلحة التي تشهدها بعض الدول العربية، وخاصة اليمن وليبيا وسوريا؛ وهي سبب أساسي لحالة عدم الاستقرار الإقليمي غير المسبوقة؛ وتمثل، مع تفاقمها وتعقدها، تحدياً كبيراً للأمن الوطني الإماراتي؛ حيث تأخذ الدولة على عاتقها مهمة العمل على إعادة الأمن والاستقرار إلى المنطقة؛ وهذا اضطرها إلى الانخراط بشكل مباشر، أو غير مباشر أحياناً، في بعض مناطق النزاع؛ من أجل حماية مصالحها، ودفاعاً عن الأمن القومي العربي الذي يشكل الأمن الوطني الإماراتي جزءاً لا يتجزأ منه. 
ثانياً- التدخلات الخارجية (محاولات السيطرة الإيرانية والتركية): لطالما كان للتدخل في الشؤون الداخلية لدول المنطقة تداعيات سلبية، وأحياناً خطيرة على الأمن الوطني للدول العربية، ومن بينها بالطبع دولة الإمارات. ولكن كانت هذه التدخلات تاريخياً محكومة بضوابط، ولها حدود واضحة؛ حيث كانت هناك ميكانيزمات رادعة؛ ولذلك كان يمكن السيطرة عليها. أما اليوم، فقد تغير الوضع كثيراً؛ وأصبحت بعض الدول العربية ساحة مستباحة من قبل بعض القوى الإقليمية؛ بل وأصبحت هذه القوى عاملاً رئيسياً في تغذية بعض النزاعات المحلية؛ كما هي الحال في اليمن؛ حيث تسبب تدخل إيران ودعمها المستمر للمتمردين «الحوثيين» في تفاقم هذه الأزمة، واستمرارها وعدم التوصل إلى حل سياسي لها، بعد مرور أكثر من خمسة أعوام عليها. 
وكذلك الأمر بالنسبة للتدخل التركي خاصة في ليبيا، حيث فاقم من حدَّة الأزمة التي تشهدها الدولة منذ عام 2011، بل عقدها؛ وهناك مخاوف حقيقية من توسع دائرة الصراع وربما اندلاع حرب إقليمية؛ خاصة مع تداخل وتشابك المصالح الدولية أيضاً، وقد عبرت فرنسا ودول أخرى بشكل واضح عن خطورة هذا التدخل على الأمن والاستقرار في البحر الأبيض المتوسط والمنطقة برمتها. وهذا كله بالطبع يشكل تحدياً كبيراً للأمن الوطني، لما له من تداعيات كثيرة على الأمن الإقليمي ومصالح الدول العربية.
ثالثاً- التطرف والإرهاب: لا يزال التطرف والإرهاب من أكبر تحديات الأمن الوطني الإماراتي، وبالطبع الأمن والاستقرار الإقليميَّان، بل العالميَّان؛ فبرغم تراجع هذه الظاهرة نسبياً بعد هزيمة تنظيم «داعش» الإرهابي في العراق وسوريا؛ فإن المخاوف من عودة التنظيم أو غيره، وربما ظهور تنظيمات أكثر تطرفاً وعنفاً، ما زالت قائمة، مع استمرار العوامل المغذّية لهذه الظاهرة؛ سواء كانت سياسيةً تتعلق بقمع الحريات، وربما الاستبداد، أو اقتصادية تتعلق بالفقر والبطالة، خاصة مع تفشي فيروس كورونا الذي يُتوقَّع أن يترك آثاراً خطيرة على الأوضاع الاقتصادية، أو فكريةً حيث لا تزال الأفكار المتطرفة تلقى رواجاً، في ظل انتشار وسائل التواصل الاجتماعي التي أصبحت ساحة لنشر الكراهية والفكر المتطرف، وحتى للتجنيد وصناعة الأتباع. 
رابعاً- الهجمات الإلكترونية والحروب السيبرانية: يتنامى القلق من تهديدات شبكات الحوسبة، أو ما تُعرَف بالحروب السيبرانية؛ حيث تعد الهجمات الإلكترونية من أخطر التحديات التي تواجه الأمن الوطني لكل الدول من دون استثناء. وتكمن المشكلة ليس في صعوبة التنبؤ بها، أو السيطرة عليها، أو منعها فقط، ولكن في الوقت نفسه في آثارها المدمرة لاقتصادات الدول أيضاً؛ حيث يمكن أن تؤدي إلى وقف قطاعات، أو تعطيل خدمات بأكملها. كما أن خطورتها تتمثل فيما يمكن أن تسببه من توتر في العلاقات بين الدول، وربما وقوع حروب؛ خاصة إذا تم تسريب معلومات مغلوطة عن تهديدات وشيكة لإحدى الدول؛ ما يمكن أن يؤدي إلى رد فعل عنيف قد يقود إلى الحرب. 
وما يفاقم المشكلة، ويجعلها تحدياً حقيقياً، هو التطور المتسارع في مجال الحوسبة والإنترنت؛ فبرغم تطوير نظم الحماية، وكذلك وجود منظومات قوانين صارمة؛ فإن هذا التهديد قائم باستمرار؛ حيث تتطور وسائل الاختراق والهجوم بشكل مستمر أيضاً. وسيتفاقم التهديد بشكل أكبر مع تشكيل الدول وحدات للحروب الرقمية أو السيبرانية؛ لتكون جزءاً من استراتيجياتها الهجومية؛ ومن ثم لم يعد مصدر التهديد هو الأفراد أو الشركات فقط، ولكن الدول نفسها أيضاً؛ حيث تقوم أجهزتها الرسمية بهجمات على مواقع حساسة لدول أخرى؛ ما قد يتجاوز حدود التجسس أو الحصول على المعلومات، إلى تدمير بيانات مهمة لمؤسسات حيوية في الدول الأخرى. 
خامساً- التركيبة السكانية: لا شك أن هناك خللاً كبيراً في التركيبة السكانية، وأسبابه معروفة؛ حيث جاء في سياق التطور الذي شهدته الدولة؛ ولكنه يمثل في الحقيقة تحدياً كبيراً للأمن الوطني؛ خاصة أنه لا توجد مؤشرات إلى تراجع حدَّة هذه المشكلة. وهذا الخلل له تداعيات سلبية، ليس فيما يتعلق بقضية العمل، أو توظيف الموارد الوطنية الضرورية لمواصلة مسيرة التنمية التي تشهدها الدولة فقط، ولكن فيما يتعلق بإمكانية حدوث اضطرابات عمالية، أو تنامي مطالب حقوقية، قد تُستَغَل من دول وقوى خارجية أيضاً. 
سادساً- التغيرات المناخية والبيئة: تُعَدُّ التغيرات المناخية المصاحبة لظاهرة الاحتباس الحراري تحدياً حقيقياً، ليس للأمن الوطني الإماراتي فقط، وإنما للوجود البشري كله أيضاً؛ حيث يتعلق الأمر بالموارد الطبيعية وبمستوى حياة الناس، وله انعكاسات مهمة على الأمنين المائي والغذائي؛ خاصة أن التغيرات المناخية تؤثر بشكل كبير في موارد المياه، سواء الخاصة بالشرب أو الري؛ كما أن لها تأثيرات كبيرة وخطيرة في الزراعة، ليس بسبب التصحُّر الذي تتسع مساحته، مقابل تراجع المساحات المخصصة للزراعة فقط، وإنما بسبب انعكاساته الخطيرة على جودة المنتجات الزراعية، ومن ثم صحة الأفراد والمجتمع معاً أيضاً.