استطاعت الدول التي اعتمدت على المعرفة والعلم والإبداع والابتكار، أن تسود عالم اليوم، وتفرض سيطرتها، وتصبح على قمة سلم الحضارة الإنسانية، حين قامت برسم خارطة لتوطين المعرفة، وصنعت أجيالاً للإبداع والابتكار والتطور.. فامتلكت العلم ودعمت قوة الاقتصاد، فالمال وحده لا يصنع حضارة، كما أن العلم وحده أيضاً لا يبني حضارة.. فالحضارات تنشأ حين تتناغم القوة الاقتصادية مع العلم والمعرفة والتطور التكنولوجي وتماسك البناء المجتمعي والثقافي.
هذا يضعنا أمام تحدٍ كبير في رحلتنا نحو الحضارة والتقدم والحداثة، فإما أن ننمي مجتمعاتنا بالعلم والمعرفة المنتجة، وإما أن نسقط في دوامات الهيمنة التكنولوجية الجاهزة التي تفرضها الدول المتقدمة تكنولوجيا واقتصادياً، مما جعلها مُصدّراً للمعرفة والآخرين سوقاً لتسويق إنتاجها.
توطين المعرفة هو نقل المعرفة من كافة مصادرها ونشرها، ثم استيعابها في المنظومة المعرفية للمجتمع، وإعادة إنتاجها وتوظيفها بصورة فاعلة في العملية الإنتاجية بكافة مجالاتها، ولدعم هذا المفهوم، لابد من بناء أجيال من الشباب يتعاطون مع المعرفة الحديثة، ويكونون قادرين على الخلق والإبداع، وإعادة إنتاج المعرفة ليبني مجتمع المعرفة الذي ينتج حضارة مستدامة، ويبتعد بالدول الناهضة من ركود الاتكال على إنتاج الآخرين والركون إلى الاستهلاك، واستنساخ التكنولوجيا والمعرفة، الذي لا يشكل توطيناً حقيقياً للعقل الباحث عن المعرفة والنهوض الحقيقي للدول.
المعرفة هي الوسيلة الأساسية القادرة على توليد الابتكار والإبداع، فكلما امتلكنا وسائل المعرفة بشكل موجه وصحيح، واستثمرناها بكفاءة وفاعلية من خلال دمج عناصر المعرفة مثل تقنيات الاتصال والمعلومات والإنترنت والتكنولوجيا بشكل عام، زادت فاعلية توطين المعرفة باعتبارها نقطة انطلاق، لتكون أصولاً معرفية لبناء اقتصاديات مجتمع المعرفة.
لذلك، لابد من الحرص على توطين المعرفة، لكي يصب في مصلحة الدول الباحثة عن الحضارة المعرفية. إن الاعتماد على الاستيراد في كل مظاهر الحياة، هو أحد أسباب عدم التقدم الذي تسعى إليه الدول، لذلك لابد من أن نخلق مسارنا العلمي، ونسعى لتحقيق التراكم المعرفي، الذي يشكل بذاته طاقة تساهم في توطين المعرفة من خلال وضع استراتيجية فعالة، وتوفير البيئات الحاضنة والداعمة لعملية توطين المعرفة في إطار منظومة اجتماعية وثقافية متناغمة.
تبدأ خطوات توطين المعرفة مع البحث العلمي والإيمان بدوره الكبير في قيادة قاطرة الحضارة الحديثة. ونحن في الإمارات، نحقق تطوراً كبيراً في السنوات الأخيرة من أجل رفع البحث العلمي لمستوى الطموح لبناء مستقبل الدولة، ونجد آثاره على الأرض، ومن تلك الآثار المستوى الذي ظهر به شباب الوطن في كافة القطاعات العلمية وغيرها في مكافحة فيروس كوفيد- 19 بمنهجية علمية، وكذلك نستعد لإطلاق «مسبار الأمل» خلال أيام في رحلته نحو المريخ، وغيرها من النجاحات العلمية، التي حققتها الإمارات في مجال توطين المعرفة، ولكن مازال الطريق طويلاً أمام رحلة توطين المعرفة.