غالباً ما تصنّف القوة الاقتصادية بكل جوانبها ومجالاتها كعامل يأتي في المرتبة الثانية في قوة الدول، والتي سرعان ما تتحول إلى قوة عسكرية، ورفع مستوى التنافسية الصناعية والتجارية والمالية والمعرفية بصورة تقود الدول لتحقيق قفزات نوعية في عالم التكنولوجيا والصناعات الذكية، والحد من الفجوات المحتملة في ميزان القوى المادية بين الدول المتقدمة والمتأخرة. ومن يملك القوة الاقتصادية والتكنولوجية يتفوق على غيره من الدول، حيث يؤثر الكيان الاقتصادي للدول المتفوقة اقتصادياً في الحالة الاقتصادية للدول الأخرى. والدول التي تكون قدرتها الاقتصادية ضعيفة، فإن هذا الأمر يحدّ من علامتها التجارية، ويجعلها لا تتمتع بحرية كبيرة واستقلالية في قراراتها الخارجية بسبب حاجتها الاقتصادية للأطراف الأخرى، والتي تتحكم في أهم صادراتها وأيضاً وارداتها الرئيسية لتشغيل أو تصنيع أهم محاور الاقتصاد، والدول الضعيفة اقتصادياً تعتمد اعتماداً كلياً على ما تستورده من الخارج.
مقومات القوة الاقتصادية لا تكمن فقط في ما تمتلكه الدول من مقدرة مالية وصناعية وتجارية، وموارد طبيعية متوفرة لديها ومواد خام تحصل عليها دون عوائق وبأسعار تنافسية، والعمالة الماهرة وسهولة وصول سلعها وخدماتها للأسواق العالمية، وما تملكه من المعادن النفيسة وعلى رأسها احتياطات الذهب، فهذا كله لن يكون هو المؤثر فقط في ميزان القوى. مقومات القوة تكمن أيضاً في ما تملكه دولة ما من مخزون معرفي وتقني عالي ومخرجات منظومتها في إدارة الموارد، بجانب منصّات ومحطات الإبداع والابتكار والاختراع المنتشرة في كل المؤسسات والأماكن، والاستثمار في ذوي المهارات المتميزة والخبرات التخصصية بعيداً عن التأهيل الأكاديمي التقليدي وغلبة ميزان الإنتاج على الاستهلاك، ومدى مساهمة الفرد لديها في الاقتصاد المعرفي العالمي، وبالتالي انعكاس مباشر على ميزان التجارة ووضع الصادرات والواردات، والتحكّم في الطرق البحرية ومحيطات العالم، أو الدخول في تحالفات تمكّنها من أن تكون جزءاً من تلك العملية، فمن يحكم تجارة العالم يتحكّم في ثروة العالم، ومن يتحكّم في ثروات العالم يحكم العالم أو يكون جزءاً من ذلك النظام الحاكم.
فرأس المال اللازم، وطريقة تدويره، وتطوير وتنمية الأصول الوطنية والتنوع والتنافسية الاقتصادية والصناعية، والرأس المال البشري والمعرفي للدول وتحالفات وتعاون القيمة المضافة في العلاقات الدولية، يحرك عجلة التنمية في الداخل، ويضيف بعداً آخر خفياً لقوة الدولة، ولكنه فعال وحاضر دائماً.. ويعزز القدرة على الردع الدفاعي وتأمين المكتسبات. وهذا يعني أن الدولة في هذه الحالة سيكون لديها القدرة على الاكتفاء الذاتي والحصول على الموارد الغذائية والمائية التي تلعب التكنولوجيا والعلوم الحديثة دوراً مهماً في الحصول عليهما بتكلفة منخفضة وكفاءة عالية. ومن لا يملك رغيفه لا يملك قراره، والتنظيم والتخطيط الاقتصادي الفعّالان هما من الصفات الأساسية للدولة القوية، وخاصةً أن الذكاء الاصطناعي والعلوم المتقدمة تتطلب بنية تحتية مغايرة، وتعليم وتعلّم وتأهيل مغاير، ونظم وقوانين وتشريعات ومرافق وخدمات وثقافة ووعي ومرونة تمهّد لذلك المستقبل.
فالدول ذات الاقتصاديات المتقدمة هي وحدها التي تستطيع استخدام الأدوات الاقتصادية كالمعونات والمساعدات والقروض والاستثمار، أو الامتناع عن المساعدة أو المعاقبة أو فرض الحظر على الآخرين من أجل تأمين غاياتها ومصالحها الوطنية المرجوة في العلاقات الدولية، كما أن مستوى الرفاه الاقتصادي يحدد قوة الدولة، ومن جانب آخر يرتبط العامل الاقتصادي ارتباطاً وثيقاً بالقدرة الصناعية للدولة وتوطين صناعاتها، ولذلك تعدّ محاربة الأمية الصناعية والمعرفية من أولويات الدول المتقدمة.