سألت صديقاً تونسياً، من وجوه الفكر والرأي، عن ما جرى هذه الأيام من جدل حول اتصال رئيس البرلمان وزعيم «حركة النهضة» راشد الغنوشي، برئيس حكومة «الوفاق» في طرابلس والرئيس التركي أردوغان، فقال لي: إن المعركة الحقيقية حالياً في تونس، تتجاوز الموقف المحدود من القضية الليبية، وتتعلق بالخطر المحدق بالمشروع الحداثي والوطني الذي كرسه الإرث البورقيبي، على أيدي الجماعات الإخوانية التي غدت تمسك بجانب وافر من القرار، في غياب توازنات حقيقية في هرم السلطة.
لقد عشت طويلاً في تونس التي وصلتها في آخر العهد البورقيبي، والتقيت بالعديد من كبريات الشخصيات المقربة من زعيم الاستقلال، وقرأت عشرات الشهادات التي كتبها عنه أعوانه وخصومه، وتولّد لدي انطباع قوي بأن الرجل تميز - بالفعل - عن نظرائه من قادة الجمهوريات العربية، بوضوح المشروع وصلابة الرؤية ومتانة الحس الاستراتيجي.
ويمكن تلخيص التجربة البورقيبية في مفاهيم ثلاثة محورية هي: الوطنية، والحداثة، والتنمية الاجتماعية.
الوطنية لا تعني بالنسبة له مجرد شعور بالانتماء، بل هي مقوم رؤية سياسية فريدة، أساسها الإيمان بهوية قومية خاصة بالبلاد التونسية، تتجذّر تاريخياً في إرث ممتد إلى العهد الفينيقي والروماني، ولمسار استقلال متدرج عن نظام الخلافة الإسلامية، انتهاءً بانفصال الدولة الحسينية عن السلطنة العثمانية، بما يمنح «الأمة التونسية» تميزها داخل العالم الثقافي والحضاري الذي تنتمي إليه. ومع أن تونس انضمت مبكراً للنظام الإقليمي العربي، فإن بورقيبة عرف بعزوفه عن الأيديولوجيا البعثية والناصرية، فظل متشبثاً بفكرة القومية التونسية، متأثراً بأطروحات المفكرين القوميين الأوروبيين، وبصفة خاصة الفرنسيين الذين ربطوا بقوة بين الدولة المركزية وتشكيل الأمة العضوية المندمجة. ومن هنا، ندرك جهوده الممتدة للقضاء على رواسب القبلية والمناطقية من منظور الوحدة الوطنية، كما نفهم حرصه الجلي على وضع سردية وطنية محلية، تستند لذاكرة تاريخية خصوصية، ورموز مستحدثة معبرة عنها.
أما الحداثة، فكانت تعني بالنسبة له، الانسياق مع الكونية الإنسانية الجديدة، ضمن منظور تنويري مستمد من النزعة العقلانية الوضعية المعاصرة، التي تشبث بها بقوة، بالرجوع لأدبيات فلاسفة الأنوار الأوروبيين والتيارات الاشتراكية التاريخانية. ويذكر الفيلسوف الفرنسي الكبير ميشال فوكو أنه طلب منه، عندما كان يدِّرس في تونس في بداية السبعينيات، أن يلقي درساً عمومياً في الجامعة حول العقلانية الديكارتية، حتى يبث في النخبة والشباب أفكار الحرية والنقد والموضوعية. إلا أن بورقيبة الذي قام بأجرأ الإصلاحات الاجتماعية التي عرفتها البلدان العربية (مدونة الأحوال الشخصية، تأميم الأوقاف، توحيد القضاء.. إلخ) لم يصطدم بالمرجعية الإسلامية في قراراته وإصلاحاته، بل كان يستند لكبار العلماء الإصلاحيين الزيتونيين، ويحيط نفسه بهم، من أمثال المفتي الطاهر بن عاشور، والفقيه محمد الحبيب بلخوجة، وكان يعتبر نفسه مؤهلاً للاجتهاد الشرعي، وفق مقاصد الدين العليا منزّلة في الواقع المتغير.
أما التنمية الاجتماعية، فكانت تعني بالنسبة له تركيز العملية التنموية حول الإنسان في مجالات ثلاث أولية، هي: التعليم، والصحة، والاكتفاء الذاتي من الإنتاج المحلي. ومع أن بورقيبة اقترب في الستينيات من سياسيات التخطيط الاشتراكي (في عهد وزيره القوي أحمد بن صالح)، فإنه سرعان ما تخلى عنها، وإن ظلت الأهداف الاجتماعية هي أساس تصوره للعملية التنموية التي حققت بالفعل مكاسب هامة، حمت تونس من هزات عنيفة عرفتها بلدان أخرى.
صحيح أن بورقيبة الذي أعلن نفسه رئيساً مدى الحياة، لم يكن ديمقراطياً بالمقاييس الغربية، وكان يعتقد أن الديمقراطية الحقيقية لا تقوم إلا في مجتمعات توفرت فيها شروط أساسية، هي الدولة الوطنية القوية، والتنمية الاجتماعية الصلبة، والاندماج الوطني الثابت، وهي الأهداف التي سعى لها، فاعتقد أن بلاده أصبحت مهيأة تدريجياً، منذ بداية الثمانينيات، لتجربة التعددية الحزبية والانتخابات الحرة.
إلا أن مرض بورقيبة وشيخوخته حالا دون تطور مشروعه السياسي، الذي تعطل في عهد خليفته «بن علي» الذي حاول طمس ذكراه، وأبعد تمثاله من الشارع الذي سُمي به في قلب المدينة، إلى شارع فرعي في ضاحية تونس الشمالية.
عشرون سنة مرت على رحيل الزعيم الحبيب بورقيبة، الذي لا يزال التونسيون يعتبرونه رمزاً للدولة الحديثة، ولمكاسب التحرر الوطني، والتحديث الثقافي والاجتماعي، ومن هنا، ندرك عمق وحدّة الصراع السائد، اليوم، حول تركته التي يريد الغنوشي وجماعته تصفيتها.