قُدِّر للقرون الماضية الأخيرة أن كانت الألمع في مجالات التطور العلمي، حيث كان القرن السابع عشر قرن الرياضيات بامتياز، وقد تبعه قرن العلوم الفيزيائية، ثم قرن العلوم البيولوجية، لكن كان القرن العشرون موسوماً بالخوف والقلق إذ شهد مآسي الحربين العالميتين. تصاعدت مع آخر أدخنة حروب القرن العشرين تلك، سجالات التنافس على الحداثة ومواكبتها، باعتبار إعلان الثورة ضد كل ما يعتقد أنه «مقدّس»، كالدين والعادات والتقاليد، في محاولة لإحلال كل ما هو مادي ودنيوي محلّه، فارتفعت شرقاً وغرباً شعارات الديمقراطية وحقوق الإنسان، والتي بدورها أنشأت منظومات فكرية وفلسفية أثّرت على سلوكيات الناس وعاداتهم وعلى طبيعة العلاقات الدولية، حيث تم تضمين تلك الحقوق في دساتير الدول الوطنية.
وقد شهد منتصف القرن الماضي تمكّن الدول المنتصر في الحربين العالميتين من تأسيس فضاءات عالميّة لصناعة القرار السياسي والحرص على تنفيذه من خلال أجهزة أممية بغية إحلال الأمن والسلم العالميين، وتحقيق الرفاهية والرقي والتقدم للبشرية. فساهمت الدول النامية، على الرغم من الفوارق المادية والطبيعية فيما بينها وبين الدول المتقدمة، في إنجاح تلك المبادرات على الرغم من الحرب الباردة بين المعسكرين المتصارعين، معسكر الخيارات الاشتراكية والشيوعية من جهة ومعسكر الخيارات الرأسمالية والليبرالية من جهة أخرى.
وفي أواخر العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين تسببت التكنولوجيا الحديثة وسباق التسلح النووي وثورة وسائل الاتصال.. في تحويل شعوب العالم إلى أسواق استهلاكية وحقول للتجارب العلمية، في ظل تغييب أخلاقيات احترام الخصوصيات الثقافية والمذهبية والدينية للشعوب. كما صاحَب ذالك جشع وتسلط الدول الكبرى على الموارد الطبيعية، محدِثةً بذلك كل تراكمات الخوف والهلع التي تنبأ بها الفيلسوف الفرنسي «آلبير كامي» في القرن الماضي، بالإضافة إلى حدوث سخط شعبي يهدد هيبة الدول وأمنها واستقرارها.
وفيما اجتاحت البشريةَ على امتداد الكرة الأرضية أوهام «الالتحاق بالركب الحضاري» الذي يتم على حساب التخلي عن «المقدّس»، باعتبار أنّ قوة الإنسان وقدرته وحدها كافية للتّحكّم في وجوده ومساره بل وفي مستقبله أيضاً.. لم تصمد هذه الهلوسة أمام تفشي وباء «كوفيدـ 19» الذي فكك منظومتها الفكرية الوهمية لصالح حقيقة سر خلق الكون، والذي ينص على أن هذا الوجود أكثر تعقيداً من أن يستعلي الإنسان فيه مهما أوتي من قوة وجبروت، وأن العودة إلى أصله في بعده الإنساني هو الأساس.
لقد أدّى تفشي هذا الوباء إلى بروز حاجة الإنسانية إلى مزيد من التضامن وتوحيد الصفوف بين الدول والأمم، وبين الطبقات والأجيال.. من أجل العيش الكريم وضمان الأمن للجميع دون تمييز عرقي أو جنسي أو ديني.
كما كشفت جائحة كورونا عما يعتري قدرات الإنسان، الذي يظن محوريته الكونية، من ضعف ونقص، إذ لم يستطع مواجهة الجائحة أو التغلب عليها بسهولة، بل أدّت إلى تفشي روح الكآبة والأمراض النفسية المليئة بالمعاناة والألم المزمن، حتى وصلت حياة الإنسان إلى أن تصبح حياة «منعزلة، فقيرة، حقيرة، همجية وقصيرة»، وفق وصف الفيلسوف الألماني «توماس هوبز».
لذا يجب علينا أن نتذكر أن عدم اليقين المرتبط بمستقبل المجتمعات البشرية أكبر وأقوى من اليقين المرتبط بحاضرها، إذ أنّه في غضون بضعة أشهر استطاع عالمنا الذي أصبح واثقاً من نفسه بشكل متزايد ومفرط، نتيجة لتقدمه العلمي وتطبيقاته التكنولوجية واقتصاداته القوية، استعادة وعيه بضعفه المذهل أمام أصغر كائن فيروسي قاتل عرفته الإنسانية.
فضعفه ليس مرتبطاً فقط بهشاشة التجربة الوجودية للإنسان، بل أيضاً بالعولمة الحديثة ذات الفكر الأيديولوجي الذي بنى نسقه الاعتقادي على قوة الإنسان وحده القادرة على قهر كل المخاطر والصعوبات، دون الأخذ بعين الاعتبار دور الإيمان بعظمة الخالق عز وجل وقدرته سبحانه وتعالى على تغيير الأحداث والكون، وهو القائل جل وعلا في كتابه الكريم: «إنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ» (سورة يس آية 82)
فتبارك أحسن الخالقين ورحمة الله على عبدالواحد ابن عاشر إذ قال في نظمه «المعِين»:
وُجُودُهُ لَهُ دَلِيلٌ قَاطِعْ حَاجَةُ كُلِّ مُحْدَثٍ لِلصَّانِعْ
لَوْ حَدَثَتْ بِنَفْسِهَا الأَكْوَانُ لاَجْتَمَعَ التَّسَاوِي وَالرُّجْحَانُ
كما قال في موضع آخر من النظم ذاته:
لَوْ لَمْ يَكُنْ حَياً مُرِيداً عَالِماً وَقَادِراً لَمَا رَأَيْتَ عَالَمَا