تبدي الصين اهتماماً بأفريقيا ربما أكثر من أي قارة أخرى. وخلافاً لما عرفته أفريقيا من اهتمامات سابقة، وخاصة من الدول الأوروبية، فإن الاهتمام الصيني أبعد ما يكون عن السياسة.
في شهر يناير من عام 1961 جرت عملية اغتيال أول رئيس حكومة منتخب في تاريخ الكونغو. كان ذلك الرئيس هو «باتريس لومومبا». وقد اعتُبر اغتياله أهم عملية اغتيال سياسي في القرن العشرين، ذلك أن تلك العملية لم تغيّر وجه الكونغو فقط، بل غيّرت وجه أفريقيا كلها، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً.
ثم إن تلك العملية دقت أول إسفين في العلاقات الأفريقية – الأوروبية، ذلك أن عملية الاغتيال نُفذت بقرار أميركي – بلجيكي مشترك، واستخدمت متعاونين من الكونغو وفرقة اغتيال بلجيكية. والسبب الرئيس هو استغلال ثروات البلاد من المعادن الثمينة، وخاصة «الكوبالت» المادة الأساس في الصناعات النووية. كان الاستعمار الأوروبي لأفريقيا استعماراً ناهباً للثروات الطبيعية، وحتى لليد العاملة البشرية.
غير أن أولويات الصين مختلفة. صحيح أنها تبحث عن استثمار الثروات الطبيعية خاصة النفط. كما تبحث عن أسواق لتصريف بعض منتجاتها الصناعية. وصحيح أن مشاريع التنمية التي تقوم بها في بعض الدول الأفريقية توفر العمل للآلاف من الفنيين والعمال الصينيين أيضاً، إلا أنها تعزف على نغم الحاجات الإنسانية للأفارقة، وخاصة الحاجات الطبية.
ففي عام 2014 وحده أقامت الصين 30 مستشفى في أفريقيا. وكانت مساعداتها الطبية قد بدأت في عام 1963 عندما أرسلت مائة اختصاصي طبي إلى الجزائر بعيد استقلالها عن فرنسا. وهي تنفق 150 مليون دولار سنوياً على مساعدات طبية تقدمها للعديد من الدول تشمل الأجهزة الطبية والأدوية. وقد أنجزت الصين بناء 30 مستشفى وأقامت 30 مركزاً لمكافحة الملاريا. كما أنجزت تدريب ثلاثة آلاف اختصاصي في الشؤون الطبية من عدة دول أفريقية. ولأن الملاريا هي العدو الأول في أفريقيا، فقد قدمت الصين 26 مليون دولار إلى 35 دولة ثمن أدوية لمكافحة هذا المرض الفتاك.
تقف الصين مكتوفة الأيدي أمام طلبات شراء الأسلحة. ولكنها تقدم إلى الاتحاد الأفريقي أسلحة بقيمة مائة مليون دولار لتجهيز القوة الأفريقية المشتركة. وهي القوة العسكرية التي تتولى التدخل بقرار أفريقي جماعي لحل النزاعات السياسية – العسكرية في بعض الدول الأعضاء في الاتحاد.. وبقرار من الاتحاد.
طبعاً ليست الصين «جمعية خيرية». إنها دولة كبرى، لها مصالحها التي تحرص عليها. ومن هذه المصالح تأمين أسواق لتصريف منتجاتها الصناعية. وهنا تحتل أفريقيا رأس لائحة الدول النامية التي تشكل سوقاً كبيرة للمنتجات الصينية. تقول الصين إنها وضعت برنامجاً لتطوير أفريقيا تبلغ نفقاته 60 مليار دولار. ذلك أنه كلما تطورت الدول الأفريقية، كلما وجدت هذه الدول نفسها بحاجة إلى المنتجات الصينية.. وبالتالي تتحول إلى سوق استهلاكية للإنتاج الصيني على حساب الإنتاج الأوروبي– الأميركي، المرتبط بتاريخ حالك السواد من الاستغلال ومن الاستعمار النهبي كما وصفه الرئيس الفرنسي الأسبق جاك شيراك.
لقد دعا شيراك عندما كان رئيساً للدولة، أوروبا إلى التعويض على الدول الأفريقية بتقديم المزيد من المساعدات غير المشروطة، ويبدو أن ما تقوم به الصين الآن هو ترجمة عملية لنصيحة الرئيس الفرنسي الأسبق، ذلك أن أفريقيا مقبلة قبل نهاية هذا القرن على أن تصبح وحدها موطناً لنصف سكان الكرة الأرضية.
ولذلك فان العالم كله معني منذ الآن بالعمل على نزع فتيل الانفجار المقبل –قبل فوات الأوان- وذلك من خلال تمكين دول القارة الأفريقية من استيعاب هذه الزيادات الكبيرة في عدد السكان بدعم مشاريع التنمية المستدامة والتطوير الاجتماعي.
لقد تعهدت الصين بتخصيص 60 مليار دولار لمساعدة أفريقيا على التنمية الداخلية في قطاعات الصناعة والنقل واستغلال الثروة المائية، والزراعة وإنتاج الطاقة. ورغم ضخامة هذا المبلغ، فإنه يبدو بسيطاً جداً أمام حجم الحاجات على مستوى القارة. من هنا تأتي أهمية المشاركة الأوروبية – الأميركية في عملية إنقاذ ُتعوّض عن عقود طويلة من النهب والاستغلال. وتسحب فتيل انفجار يتجاوز أفريقيا إلى العالم كله.
*كاتب لبناني