في حياة كل إنسان آخرون لم يكونوا يوماً مجرد عابرين معه في رحلتهم مع الحياة بل هم راسخون في تلك الرحلة بفكرهم وعطائهم، ونظل نتتبع خطواتهم المعرفية بحثاً. ويبقى لهم في قلوبنا التقدير، ويظل لهم في عقولنا ركنٌ من الذاكرة يبقى فيه زخم فكرهم.
واليوم جاءتني رسالة من أستاذي الذي أعتز به معلماً وصاحب بصمة فكرية عميقة، كانت رسالته تعليقاً على مقال سابق كتبته، قال في رسالته: (مقال رائع ..ولو قرأته وكاتبه أحد آخر، كنت أقول إن شما ساكنة فيه.. هذه روحُك وشغفُك المشتعل بنار المعرفة).
وها أنا أجلس وحدي في زاوية اعتدت أن أجلس فيها للكتابة، أتأملُ فكرةً تخطفها كلماتي لأُنهي مقالي الشهري، ولكن أُصبت بحالة من الصمت الذهني، وألحقه صمتٌ آخر بعد حديث دار بيني وبين أستاذي .. صمت صاخب بتساؤلات حائرة.
توقفت عند كلماته، ودققت في تلك المعاني المخبأة بين سطورها قبل معانيها الظاهرة في حروفها. كانت رحلة تأمل مع خبايا الرسالة، وكنت قد بدأت أفكر في موضوع مقالي هذا فوجدتني أكتب لك، قارئ حرفي، وأشاركُك كلماته، التي سببت لي دهشة. ولا يمكن المرور دون التوقف عندها، فهي كلمات تستلهم قيمة أن يكون هناك من يمنحك القوة للبحث وراء الشغف والمعرفة.
وجدت التساؤلات تتدفق في ذهني من فيض تلك اللحظة، التي تأملت فيها زوايا رحلتي مع الفكر. وشعرت أنني في لحظة استسلمت لمنطقة الراحة، وأن الاستسلام هذا هو تجمد عند حالة ما، أو توقف عن الإبداع. ووجدتني أسأل نفسي أين وصلت بك منطقة الراحة؟ أين حلمك؟ وكيف يمكنك تفكيك رموزه وإشاراته؟
بحثت كثيرا عن تلك الإشارات لإيقاظ الشغف فأكتب، ولكن استمر السكون وطال صمت الإجابات .. مما جعلني أتسلل للبحث عما وراء صمت الدهشة. هل هو اليقين أننا سنخرج من منطقة الراحة إلى تحقيق الحلم الذي طالما راودنا في نفق الأحلام؟ فيشتعل فتيل الشغف ويجعله أكثر إثارة.
لابد من أن نتحرك لنتخلص من ذلك الشعور بالوصول، فوراء كل حلم يولد حلم جديد، وفي اللحظة نفسها، التي قد يختفي بريق شغف استنفذ وقته، لابد وأن يولد شغفٌ جديد، يعيد الحيوية للعقل الباحث دوماً عن المعرفة. وجدتني أكتب على الورق (حلمي ألا أتوقف عن الأحلام).
دائماً ثمة نور جديد يتكون في ظلمة الانتظار ولكن هل ننتظر؟ الانتظار في لحظة ما من الحياة هو جمود، لذلك في تلك اللحظة، لابد وأن تمد يديك إلى عمق العتمة لتُخرج منها نور حلمك الجديد، وتلقيه في سمائك شمساً تعيد الربيع لعقلك ويستعيد قلمك مداده، فيكتب ويكتب من فيض حلمك الجديد.
حديثك أستاذي سبب خفي رحل بروحي إلى جزر الشغف النائية. كلماتك هي أحرف من نور تضيء لي الطريق الباقي من العمر. كانت وما زالت رحلة معرفية وفكرية أتزود منها كلما أرخت راحلتي حمولتها في منطقة الراحة ..
أيها الحكيم.. كل حرف وكلمة تعلمتها منك يا أستاذي ومعلمي هي نور لفكري. قد يحجبنا ضباب الترحال عبر محطات العمر المختلفة، ولكن يبقى ما تعلمته منك هو النور الذي يضيء لي فكري كلما بدأ سراج الفكر في الانطفاء تاركا ثقوباً سوداء لو اقتربت منها لأطفأت نور العقل. لكن تبقى كلماتك تُشعل نار الشغف مجددا .. شكرا أيها الحكيم على إشعال جذوة المعرفة التي لا تنطفئ.
* أستاذ زائر بكلية التقنية العليا للبنات، وباحثة في الأمن الاجتماعي والسياسي.