سنتحدث عن ساسة أتراك، غلمان وحاكمين، عبثوا في تاريخ بغداد وأنحاء الدولة العباسية، لا عن الشعب التركي. ومعلوم أن تعميم الجزء على الكل ليس من الحقِّ، فالجزء مهما كان مستغلاً للكل، لا يعبر عنه، نقول هذا، كي لا يُفهم مقالنا هذا على أنه عن الشعب التركي بالكامل، لا عن ساسة. فعلى الرُّغم مِن الفرص، التي حصل عليها الساسة التُرْك، عبر التَّاريخ، لكنهم ظلوا يتعاملون بمنطق الغزاة، والمدمرين لا البنائين، فحكم سلاطين آل عثمان استمر أكثر مِن خمسمائة عام، لكنهم استمروا يتصرفون، كما كانوا في البداية، لم يستفيدوا مِن الثورة التكنولوجية والعلمية، والتغيرات التي اجتاحت العالم في القرون الأخيرة، ظلوا يحمون إمبراطوريتهم بأسلوب السّخرة، وجمع الخراج، بلا مقابل لتلك الشُّعوب.
تذكرنا تصرفات الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، مِن ارتداء ثوب التَّاريخ العثماني، بل وتاريخ ما قبلهم، مِن أول ظهورهم كمؤثرين في الدّول، زمن إغراق الجيش العباسي بهم في عهد المعتصم بالله(ت227ه)، وبسبب كثرتهم ببغداد، اضطر المعتصم إلى نقل الخلافة إلى سامراء(221هجرية)، ظل التَّأثير حتى نهاية السَّلاجقة، في العهد المتأخر مِن الدَّولة العباسية؛ أي عهد الناصر بالله(ت622هجرية)، الذي انتهت فيه الازدواجية كليةً بين السّلطنة والخلافة، والتي بدأت واضحة منذ هيمنة الغلمان الأتراك، ونموذجها الخطير «وصيف»(قُتل 253هجرية) و«بُغا»(قُتل 254هجرية) و«بجكم» وغيرهم. مازال الرّبط شائعاً عن تأثير الخؤولة على الخلفاء، فالمأمون اعتمد على الفرس، لكن أمه كانت أم ولد «مراجل» رومية، والمعتصم أمه أم ولد «ماردة» مولدة كوفية (ابن حزم، رسالة في أمهات الخلفاء)، والمقصود بأمهات الأولاد أنهنَّ الجواري المحظيات، أما المتوكل(قُتل247هجرية)، فأمه «شجاع» أم ولد، كانت تركية، لكن تقريبه للغلمان الأتراك أخذه عن والده المعتصم.
استغل وصيف وبُغا(الشّرابي) موقف المتوكل مِن ولده المنتصر، وأنه أراد إبعادهما، فقتلاه بعلم ولده، الذي نصباه خليفةً. بعدها اعتاد الغلمان الأتراك يعزلون خليفة ويُنصبون آخر، والمعزول، إما أن تُسمَل عيناه، كي تُسقط عنه الخلافة، وهي سلامة البدن، أو يُقتل، وقد شاع البيت: «خليفة مقتسم/بين وصيف وبُغا/ يقول ما قالا له/كما يقول الببغا»(الصَّابي، تحفة الأمراء). بعدها فرض الغلمان على الخليفة منصب «أمير الأمراء»، قُبيل هيمنة البويهيين على بغداد، وبيد «أمير الأمراء» الحلّ والعقد، ففي ظله تعطل منصب الوزارة، بل والخلافة أيضاً، وجد هذا المنصب العام 324هجرية، ومسؤوليات صاحبه: إمارة الجيش والخراج؛ أي الحرب والاقتصاد، ويُخطب له على جميع المنابر(ابن الأثير، الكامل في التَّاريخ).

كان الغلام «بجكم» ثاني أمير أمراء، في الخلافة العباسية، يعرف العربية ولا يتكلم بها، ابتعاداً عن اللحن، اهتم بجمع المال، جاعلاً الدفائن في الصحاري، وبيوت لا يعرفها إلا هو. كان يعصب عيون حمالي الصناديق، كي لا يعرفوا الطريق إليها، ولما قُتل(329هجرية)، ضاعت الدفائن(مسكويه، تجارب الأُمم). مَن يقرأ التاريخ، مِن المعتصم وما بعده، لا يجد صفحةً خالية مِن غلام تركي يتلاعب في المُلك، ثم صار النزاع بينهم البين بعد تعاظم دورهم، حتى جاءت السلطنة العثمانيّة، وحكمت المنطقة لقرون.

قلص أتاتورك (ت1938) الإمبراطورية العثمانية، بالدَّولة التُّركية، فعصر الإمبراطوريات ودور الغلمان الغرباء قد انتهى، لكن النَّظرة الدِّينية في الخلافة، التي يعتقدها أردوغان، أعادت حلم «وصيف» و«بُغا» و«بجكم» في الهيمنة وسلاطين العثمانيين، وإلا كيف تتحول ليبيا إلى إرث عثماني؟!  وتحت هذا المبرر دخل الجيش التركي، ذو العقيدة العثمانيَّة الجديدة، يقود مقاتلين مِن الجماعات المتطرفة، وممَن دفعته معاناة معسكرات اللجوء إلى التجنيد فيه.

ربَّما لسان حال الليبيين يُنشد ما نظمه بعض أهل سامراء خلال سيطرة الغلمان الأتراك:«لله دَرُّ عِصابةٍ تركيةٍ/ردوا نوائب دهرهم بالسَّيف/قتلوا الخليفةَ أحمد بن محمد/وكسوا جميع النَّاس ثوب الخّيف/وطغوا فأصبح ملكنا متبدداً/وإمامنا فيه شبيه الضَّيفِ»(المسعودي، مروج الذَهَب). إنه تصدير للعقيدة مِن جهة الشمال، هذه المرة، وتحت الرّاَية العثمانية الإخوانية، زمن رجعة طغيان «بجكم» و«وصيف» و«بُغا» بثياب «إخوانية»، فأحد رموز الإخوان رفع يد أردوغان وناده بلقب «سلطان المسلمين»!