العواطف غرائز بشرية، ومشاعر إنسانية، وأحاسيس فياضة، جُبل عليها الناس في كافة شؤونهم، فمنهم المقل والمكثر، ومن الناس من تَجرُفه عاطفته إلى واد سحيق، وتَعْصِفُ به حتى لا يكاد يُدرك الطريق، ومنهم من يتحكم فيها ويحكمها بميزان العقل والمنطق.
وهذه العواطف خلقها الله تعالى لمهمة ومصالح، ولم تأت الأديان السماوية من أجل إلغاء العواطف وتجاوزها، والمنع من ممارستها واستخدامها، ولكن العاطفة لها مواطنها ومهامها في حياة كل إنسان، لا ينبغي أن يتجاوزها ليُرتب عليها أمورا أخرى، مثل الحقائق، والأحكام، والقرارات، والإدراكات، فليست العواطف منتجة لذلك ولا هي آلَةٌ من آلاتها، فإذا حَضَرَتْ هذه العواطف في الشؤون الأسرية للإنسان، وفي مهماته التربوية، وفي علاقاته مع أصدقائه، وفي عموم أخلاقه وقيمه، من الرحمة، والشفقة، والرأفة، والكرم، والدفع لعمل الخير، والإحسان للإنسانية، فذلك موطنها المحمود، وفعلها المرغوب.
لكن عندما تتحول هذه العاطفة لتعطيل العقول، وتَحْكُمُ تصوراتِ الإنسان، وينشأ عنها انفعالات طائشة، فقد تَجُرُّه وتجر معه المجتمعَ إلى ويلات، فجائحة العواطف ليست بأقل من الجائحة التي يُكابدها العالم هذه الأيام، وأقصد هنا على الخصوص «العاطفة الدينية»، تلك العاطفة التي دفعت كثيرا من الشباب إلى هُوَّة التطرف، وفَصَلَتْهُم عن مجتمعاتهم وثقافتهم، وتَدَيُّنِهم المعتدل، وقَادَتْ مجتمعاتٍ إلى التفكك والتشكيك في الثوابت، وعدم التسليم للقرارات والمسلمات، فَمَنْ كان أسيرًا لعاطفته المشحونة دينيا قد لا يُقنعه دليل، ولا يُسَلِّم لأي برهان أو قرار مهما كانت قوته وأصالته، لأن العاطفة تُعمي البصر والبصيرة، فهي وَتَرٌ حساس، فبمجرد الوصول إليه يقشعر له البدن، ويستسلم لكل ما يُملَى عليه، والعَاطِفَةُ وَالهَوَى يلتقيان كلاهما في مدلول لغوي واحد وهو «الميل»، وقد وصف الإمام الشافعي مفعول العاطفة في قوله:
(وعينُ الرِّضا عن كلَّ عيبٍ كليلة... وَلَكِنَّ عَينَ السُّخْطِ تُبْدي المَسَاوِيَا)
إن هذه الجائحة الجاثمة على العالم اليوم تُعد فرصةً مُهَيأةً لأصحاب العواطف الدينية الجامحة، والمشاعر الجياشة التي ليس لها خطام ولا أزمة، وقد استُعْمِلتْ في غير محلها، وبَرَزَتْ في مواطن الحقائق، وطَغَتْ أحيانًا وأريد لها أن تكون في مواجهة القرارات والتعليمات الصارمة، والاحترازات الوقائية التي تَهدف لحفظ النفوس ووقايتها من هذا الوباء، فتلك العاطفة الهوجاء، تُصور لصاحبها أن هذا الوباء مَكْرٌ وخديعة، لا يُراد منه إلا إبعاد المسلمين عن مساجدهم، وتعليق الجمعة والجماعات، وتعطيل شعائر رمضان المحبَّبَة لنفوس المؤمنين، فتَلْقى صاحبها مكروبًا حزينًا، متألمًا مهمومًا، جالبًا بخيله ورجله، شاكيًا الأوضاع، لا يهنأ له بال، ولا تغمض له عين، جراء آثار هذا الوباء على دينه، ولو كانت عاطفته معتدلة واعية، مؤمنة بالمنطق والحقائق، لَعَلم أن ديننا دينٌ سمحٌ سهلٌ ميسرٌ، واسع الآفاق، شاسع الرؤية، وتلك الإجراءات الاحترازية ضرورة ورخص شرعية، ومن تعاليم ديننا الرحبة لمثل هذا الوضع، قول نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم: «وَجُعِلَتْ لِيَ الْأَرْضُ طَيِّبَةً طَهُورًا وَمَسْجِدًا، فَأَيُّمَا رَجُلٍ أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ صَلَّى حَيْثُ كَانَ».
إن أولى الأشياء بتجنيب العواطف هو الخطاب الديني الذي لا يثبت له قرار، ولا يكون بردًا وسلامًا على المجتمع إلا إذا بُني على حقائق واقعية، وانطلق من أسس علمية متينة، ويراعي الواقع وحيثياته، ويأخذ بضوابطه العلمية والوطنية فـ «لكل مقام مقال» و«لا تحدث قومًا حديثًا لا تبلغه عقولهم»، لأن الارتباط الوثيق إنما يكون بين الخطاب والعقل وليس بين الخطاب والعاطفة، وذلك أن أي تقصير في هذا الجانب مآله خطير، فبمجرد إثارة العواطف تتحول مباشرة إلى الغيرة والحماس، وحينئذ لا يَحول بينها وبين التطرف أي شيء، ويدل على ذلك أن أعظم وسيلة استخدمها المتطرفون منذ ظهور الخوارج إلى يومنا هذا هو سلاح العاطفة الدينية في المتطرفين، وهذا ما تُؤكده مراكز الأبحاث والدراسات.
فتلك دعوة لمراقبة عواطفنا وعواطف شبابنا حتى لا تنفلت فتقودهم إلى التطرف، فالْعَدُوُّ الأول للعاطفة غير المنضبطة هو حقائق الوحي الشريف، والفهم الصحيح للدين الحنيف، والواقع، والمنطق، والعلم، والبرهان، فعلينا أن نحكم ذلك في عواطفنا، وأن نجعلها قائدة لعواطفنا بعد فهمها على هدى من الله، «وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير».
*كاتب إماراتي