ما جرى في ليبيا خلال الأيام الأخيرة كان أحد السيناريوهات المطروحة لحرب تمضي بين كر وفر، وإقبال وإدبار، لا يُنجز فيها نصر مبين، ولا تقع هزيمة منكرة، ولا يمكنها أن تضع أوزارها بعيدا عن «حلول سياسية» تحقن الدماء، وتحفط لليبيا وحدتها، وهي مسألة عرفتها كل الحروب النظامية والأهلية عبر التاريخ الإنساني، حيث غرست دوما طاولات التفاوض في تراب موحول بالدم.
فحتى لو كان السيناريو العكسي هو الذي يجري الآن، أي تمكنت قوات الجيش الليبي الذي يقوده خليفة حفتر من دخول طرابلس، فإن استتباب الأمور، وجلب الاستقرار ما كان له أن يقوم من دون تسويات سياسية في بلد منقسم بين قديم لا يريد أن يتجدد، وجديد لا يريد أن يولد عفيا، ثم تجاذبته صراعات بين أطراف إقليمية ودولية، دخلت على أرضية قبلية وجهوية ودينية متطرفة بعضها محلي وأكثرها فاعلية قادم من الخارج.
وهذا التصور السياسي يحكم جانبا من موقف مصر وتوجهاتها حيال المسألة الليبية، لهذا لم تقف في وجه المبادرات التي طرحت لتحقيق هذه الغاية من قبل حتى طرحت مبادرتها الأخيرة قبل أيام، التي هي حلقة في سلسلة مواقف متتابعة اتخذتها القاهرة منذ اندلاع الثورة الليبية، وحتى اللحظة الراهنة.
ففي البداية لم يتدخل المجلس العسكري الذي كان يدير شؤون مصر بعد تخلي مبارك عن الحكم، في ما يجري بليبيا، ثم تفاعلت القاهرة بإيجابية مع رغبة عربية ودولية لإنقاذ الشعب الليبي، ما ظهر خلال اجتماع الجامعة العربية الذي فتح الباب لتدخل دولي ساهم بقوة في إنهاء حكم القذافي، لكنه فتح صراعاً على السلطة، كانت أحد أطرافه جماعات إرهابية رأت في ليبيا أرضاً مستباحة بوسعها أن تحقق فيها إماراتها المتوهمة، وتنطلق منها لتغير على الدول المجاورة تحت راية الفتح المزعوم، أو للانتقام من السلطة المصرية الحالية بعد إسقاط حكم «الإخوان».
في ركاب هذا طالما نشرت صحف مصرية عن تهريب أسلحة ثقيلة من ليبيا إلى التنظيمات الإرهابية في سيناء، وأتبع هذا قيام إرهابيين في ليبيا بإعدام مجموعة من المسيحيين المصريين، ما خلق ضغوطا داخلية على السلطات المصرية فلم يجد أمامها سبيلا سوى الثأر.
وغير مرة تسللت مجموعات إرهابية من الأراضي الليبية إلى صحراء مصر الغربية، وهاجمت عدة أكمنة للقوات المسلحة والشرطة، وكان قوامها الرئيسي من إرهابيين مصريين فروا إلى ليبيا وانتظموا تحت راية «القاعدة» و«داعش».
وكرد فعل طبيعي اتخذت مصر ما يلزم لحماية حدودها الغربية، ووجدت نفسها أمام خيارين إما اجتياح الحدود، أو مد يد العون إلى إحدى القوى الليبية، لاسيما التي تتحكم في شرق البلاد، ومالت القاهرة للخيار الثاني لأنها ليست طامعة في أرض ليبيا. في ظل هذا وضعت القاهرة يدها في يد حفتر، لاسيما بعد أن تبين لها علاقة حكومة طرابلس بالجماعات الإرهابية النشطة في غرب ليبيا والعاصمة، ثم تحالفها مع أردوغان، وتماهيها مع مشروعه التوسعي.
تدرك مصر الآن، بعد كل ما جرى من قتال في العام الأخير، أن انكسار قوات شرق ليبيا سيعني وصول التنظيمات الإرهابية إلى حدود مصر، ناهيك عما يرتبه الصراع حول الغاز في البحر المتوسط، لهذا كان من الطبيعي أن تدفع مصر بعض قواتها المسلحة لتأمين الحدود مع ليبيا، بعد أن أطلقت مبادرة سياسية ربما أرادت منها أيضا طمأنة العالم إلى أن تحريك الجيش نحو الغرب لا يعني الدخول المباشر في المعركة، أو إسقاط الحل السياسي إلى غير رجعة.