لطالما كانت «القوة الناعمة» جزءاً من صندوق الأدوات الدبلوماسية في الشؤون الدولية؛ غير أن كوفيد- 19 أخذ يعطيها معنى جديداً، الأمر الذي قد يساعد على تفسير لماذا نجحت بعض البلدان في احتواء الوباء، بينما تجد بلدان أخرى صعوبة كبيرة في ذلك. كما يمكن أن يوفّر دليلاً مهماً لاستشراف كيف تتعامل بلدان مختلفة، أو مناطق داخلها، مع الوباء، وسط عمليات إعادة فتح البلدان الجارية الآن، وخاصة في حال تعرضت لموجات أخرى من حالات كوفيد- 19.
التعريف القديم للقوة الناعمة هو: المساعدات الخارجية، والتبادل الثقافي، وبرامج التواصل التي تستخدمها الحكومات ليس لإظهار القوة الخام، وإنما قوة الأفكار وإعطاء القدوة. ولكن في عصر كوفيد- 19، أصبحت تصف قوة ليست لدى الحكومات، وإنما لدى الشعوب التي تحكمها تلك الحكومات. وهي تقوم على الفهم المتبادل والثقة المتبادلة، وشعور مشترك بالمسؤولية، والالتزام والفخر الوطنيين. إنها النسيج الذي يربط المجتمع بعضه ببعض.
غير أنه وسط المواجهات العنيفة التي اندلعت في الولايات المتحدة خلال الأيام الأخيرة، تعرضت هذه القوة لضغط شديد.
وعلاوة على ذلك، فإنها تثبت أنها وسيلة أساسية في التحدي المتواصل الذي يطرحه الوباء، في وقت تسعى فيه الدول حول العالم وراء قبول الجمهور للقيود الصارمة على النشاط الاقتصادي وجوانب أخرى من الحياة اليومية، قصد المساعدة على احتواء الفيروس.
لقد ألقت ضوءاً كاشفاً على جهود بعض البلدان للحد من أعداد ضحايا كوفيد-19؛ ولكنها أبرزت أيضاً النجاح في أماكن أخرى مثل تايوان، ونيوزيلاندا، وهونج كونج خاصة؛ أو بلدان جنوب أوروبا مثل اليونان والبرتغال؛ أو مناطق معينة من دول تضررت كثيراً من الوباء، مثل ولاية واشنطن في الولايات المتحدة.
إنها ليست التفسير الوحيد لقصص النجاح. فالخطوات العملية من قبيل الرد المبكر، والرسائل الواضحة، وإجراء الفحوصات وعمليات التعقب، كانت بالغة الأهمية. غير أن هناك نسقاً قوياً ومقنعاً لـ«القوة الناعمة» في بعض الأماكن، حيث يتم حالياً تسجيل تقدم في المعركة ضد كوفيد-19، على الأقل حتى الآن؛ وهذا أمر لافت وخاصة أن الوباء جاء في وقت أضحت فيه الحياة السياسية في كثير من البلدان مشحونة ومتقلبة.
تايوان، التي تبعد بـ128 كيلومتراً فقط عن الصين، كانت على الخط الأمامي عندما بدأ فيروس كورونا في الانتشار من مدينة ووهان الصينية أواخر العام الماضي. ورغم أنها على خلاف سياسي مع بكين، التي تعهدت بـ«إعادة توحيدها» مع البر الرئيسي، فإن الجزيرة تستقبل قرابة 3 ملايين زائر صيني سنوياً. كما أن أكثر من مليون تايواني يعيشون في الصين أو يعملون فيها. ومع ذلك، سجلت الجزيرة أقل من 500 حالة إصابة حتى الآن، مع ثماني حالات وفاة فقط.
وعلى غرار بلدان أخرى تمكنت من الحد من انتشار كوفيد-19، فإن تدابير الصحة العامة
والسياسة العامة الفعالة كانت أساسية. ولكن كذلك الحال أيضاً بالنسبة لمكون «القوة الناعمة»، أي: تقبل الجمهور، إضافة إلى المشاركة والدعم النشطين في الحرص على نجاح الاستراتيجية.
في أماكن أخرى، ربما كانت الرسالة أقل وضوحاً؛ ولكن الروح التعاونية لم تكن أقل أهمية. ففي نيوزيلندا، أشيد برئيسة الوزراء جاسيندا آردرن لأنها وفّرت التوجيه والوضوح والتعاطف في إغلاق البلاد قبل أن يبدأ كوفيد-19 في الانتشار. وفي اليونان والبرتغال، تألق أيضاً وزراء ومسؤولو الصحة العامة. ولكن تقبل الجمهور للتدابير المعلن عنها في كل البلدان الثلاث كان مهماً للغاية. كما كان ثمة شعور وطني بالفخر بسبب النجاح - حتى الآن - في الإبقاء على أعداد حالات الإصابة أقل مما هو عليه الحال في البلدان المجاورة.
وإذا كانت الحكومة الفيدرالية في الولايات المتحدة قد تركت معظم مسؤولية الرد على الوباء للحكومات المحلية، فإن الحد من عدد الضحايا اعتمد أيضاً على دعم المجتمع ومشاركته في ولايات مثل واشنطن، حيث حدث أول تفشٍ مهم لحالات الإصابة.
وفي نيويورك أيضاً – ورغم أن الوباء تفشى قبل الإعلان عن القيود الرئيسية – اعتمدت فعالية الإغلاق على شعور مشترك بـ«نيويورك قوية».
غير أن المثال الأكثر دراماتيكية هو هونج كونج. فأكثر من تايوان، كان من المتوقع أن تعاني هونج كونج من الوباء كثيراً – ليس فقط بسبب حجم حركة النقل مع الصين في البر الرئيسي، ولكن لأن سكانها الـ7 ملايين يعيشون في منطقة ذات كثافة سكانية عالية مثلما هو الحال في مدينة نيويورك. ومع ذلك، لم تسجل هونج كونج، حتى الآن، سوى نحو ألف حالة إصابة بكوفيد-19، وأربع حالات وفاة فقط.
وهذا على الرغم من رد ضعيف من قبل حكومة المدينة، التي لم تكن تملك أي استراتيجية منسقة للتعاطي مع نقص معدات الحماية، مثلاً، وأثنت الناس عن ارتداء الكمامات في مرحلة من المراحل. الخلفية السياسية كانت أشهراً عديدة من الاحتجاجات العامة على الحكومة الموالية لبكين قبل الوباء. ولكن ذلك قوّى الرد أيضاً. فسواء تعلق الأمر بتوفير معدات الحماية، أو ارتداء الكمامات بشكل عام تقريباً، أو تعقب الحالات، أو حتى مساعدة نزلاء الفنادق التي تستقبل المهاجرين، فإن الناس هم من تحملوا المسؤولية في مواجهة الوباء، حيث تحركوا من خلال الإنترنت والشبكات الاجتماعية التي أنشئت خلال شهور من الاحتجاج.
ينشر بترتيب خاص مع خدمة كريستيان ساينس مونيتور