لا يعترف فيروس كورونا المستجد بأي فروق بين البشر، بل يتعامل معهم على قدم المساواة. الأديان والعقائد كلها عنده سواء. يصيب الأعراق والأجناس جميعها بلا تفرقة. لا يميز بين غني وفقير. يصيب أغنياء لا تنقذهم ثرواتهم من براثنه، وفقراء لا يملكون شيئاً.
لكنه، في المقابل، يؤثر على الفقراء وأصحاب الدخول الدنيا أكثر من غيرهم. وتدل البيانات المتوفرة حتى الآن على ازدياد معاناة الفقراء والفئات الدنيا في الطبقة الوسطى بسبب تداعيات انتشار فيروس كورونا الاقتصادية والاجتماعية مقارنة بالشرائح الاجتماعية الأعلى في معظم المجتمعات، بما يعنيه ذلك من ازدياد التفاوت الاجتماعي في العالم. وتتوقع هيئات دولية عدة توسع دائرة الفقر في العالم بسبب الإجراءات الاحترازية المتخذة للحد من انتشار الفيروس، لأنها تشمل غلق كثير من المنشآت، مما يؤدي إلى انكماش اقتصادي نتيجة تراجع معدلات النمو، وازدياد نسب البطالة. وعلى سبيل المثال، قدمت منظمة أوكسفام الخيرية الدولية، في تقريرها الأخير الصادر في الشهر الماضي، صورة متشائمة مؤداها أن نحو نصف مليار شخص سيدخلون في دائرة الفقر خلال العام الجاري. ومن شأن هذا الزحف الجديد للفقر أن يوجه ضربة موجعة إلى خطة الأمم المتحدة للتنمية المستدامة 2030، وهدفها الأول وهو القضاء على الفقر المدقع خلال عشرة أعوام، كخطوة باتجاه الحد من التفاوت الاجتماعي.
المعطيات الراهنة تفيد، إذن، أن خطر كورونا على الفقراء والفئات الدنيا في الطبقة الوسطى أكثر من غيرهم على المستوى الاقتصادي الاجتماعي، رغم أنه لا يميز بينهم على المستوى الصحي.
ومن الضروري، والحال هكذا، طرح بعض الأسئلة الأولية في مجال تفاوت تداعيات «كورونا» الاقتصادية الاجتماعية على فئات المجتمع. ومن أهمها سؤال عن العلاقة بين تفاوت هذه التداعيات والاختلاف الكبير في أعداد من ينتمون إلى فئات وشرائح المجتمع من أدناها إلى أعلاها. أعداد الفقراء وأبناء الفئات الدنيا في الطبقات الوسطى هي الأكبر في أي مجتمع، وإن اختلفت نسبتها إلى إجمالي السكان، إذ تزداد هذه النسبة في المجتمعات النامية والمتخلفة التي لم تحقق قفزات اقتصادية كبيرة. فالتركيب الاجتماعي يشبه الهرم، ولذا يُطلق عليه أحياناً الهرم الاجتماعي.
ومن الطبيعي، بالتالي، أن تكون تداعيات «كورونا» على قاعدة الهرم الاجتماعي أشد منها على قمته ووسطه الأعلى. ولا يعني هذا نفي مسؤولية السياسات الليبرالية الجديدة عن تفاقم التفاوت بين قاعدة الهرم وقمته في العقود الأربعة الأخيرة، بعد أن كان هذا التفاوت قد تراجع نسبياً في العقود الثلاثة التي سبقتها.
ويثير هذا سؤالا ثانياً عما إذا كان تفاقم التفاوت الاجتماعي قد قوَّض فكرة التقدم التي يؤمن بها من يعتقدون أن التاريخ يسير إلى الأمام بوجه عام، لكن ليس في خط صاعد بل متأرجح، في ضوء المشهد الراهن في عالم يئن تحت وطأة الخوف من كائن مجهري لم يكن في حسبان أحد حتى أشهر قليلة مضت.
ومن طبائع الأمور أن تختلف الإجابات عن هذا السؤال حسب زوايا النظر. لكن دعونا نقارن مثلاً بين حظوظ الفقراء في الحصول على علاج عند إصابتهم بالفيروس الآن، وما كانت عليه قبل ثلاثة قرون عندما خلقت آخر موجات الطاعون الأسود القاتل خوفاً مماثلاً. ولا يتطلب الأمر عناءً كبيراً لمعرفة أن فرص الفقراء في الحصول على العلاج عند إصابتهم بفيروس كورونا الآن صارت أكبر بكثير، بل ربما لا يوجد وجه للمقارنة أصلاً. فعندما انتشر الطاعون الأسود في أوروبا في بداية نهضتها في القرن السابع عشر، كان ضحاياه جميعهم تقريباً فقراء ومتوسطو الحال، ولم يكن أمام الفقراء سوى انتظار الموت والدفن في حفر كبيرة، بل كان بعضهم يقفزون إليها ليُدفنوا أحياء هرباً من آلام المرض المبرحة. وفي المقابل أُتيح لعلية القوم وأثريائهم فرص للانتقال من الأماكن التي تزداد فيها الإصابات، ووجدوا من حاول إسعاف المصابين منهم في حدود مستوى تطور الطب وقتها.
وليت من يشك في أن العالم يتقدم، رغم كل العوائق التي تعطل تحركه إلى الأمام، أن يتأمل مشهد العالم أيام موجة الطاعون الأسود في ذلك الوقت، ومشهده في ظل كورونا اليوم، ليعرف أن التفاوت الاجتماعي الراهن في العالم أقل خطراً على البشرية مما كان عليه قبل قرون قليلة.