قبل ثلاثة عقود، كانت مراكز الأبحاث تتحدث عن استمرار أميركا في قيادة العالم لثلاثين عاماً من المستقبل. وقد حدث ذلك، وها نحن ندخل في منتصف عام 2020 والعالم بأجمعه يشاهد شرطياً أميركياً واجبه الحفاظ على أرواح الناس، يضع ركبته على رقبة رجل عادي ولكن أميركي أسود اللون، حتى يلفظ أنفاسه الأخيرة، دون أن يجرؤ أحد على منعه من ارتكاب جريمة كاملة الأركان، مع سبق الإصرار والترصد.
لم يتقبل الشعب الأميركي بهذا الحكم الذي رآه جائراً ومنحازاً للأجهزة الأمنية التي تذهب إلى قتل الناس على الملأ، من دون رادع من قانون ولا حقوق إنسان. كسينجر يرى بأن «كورونا» سينشئ نظاماً عالمياً جديداً، ونحن نرى بأن ما يحدث لأميركا في عهد ترامب سيفكك النظام العالمي الذي كان جديداً في فترة ما ولم يعد كذلك لماذا؟!
لست من دعاة العامل الأوحد في تراجع الأمم والحضارات، بل كلها قابلة للسقوط والانهيار ومجريات التاريخ البشري أوضح دليل على ما نقول، ويمكن العودة إلى نظرية العمران البشري لابن خلدون ونظرية إحسان حقي في «تدحرج عروش»، ونظرية مالك بن نبي في «شروط النهضة»، ونظرية توينبي، و«صراع الحضارات» لفوكوياما، و«تاريخ العالم» لنهرو، وغيرها من الدراسات القيّمة التي توضح عوامل جوهرية لاستمرار نظام وانهيار آخر. وأميركا ليست استثناءً من هذه المعادلة الحضارية ثلاثية الأبعاد وهي: الإنسان + الزمان + المكان = الحضارة.
وإزالة أي بعد من هذه المعادلة يعني بداية النهاية، إذا لم يتم استدراك الوضع في الوقت المناسب.
والمثالان الواضحان في التاريخ العربي الإسلامي، هما من حضارة الأندلس التي استمرت في العطاء لقرابة ثمانية قرون، ثم تحولت هباء منثوراً، ولحقها في ذلك ما أطلق عليه «الرجل المريض»، ونعني به الخلافة العثمانية التي لعب بها «الطورانيون» أطواراً. فأميركا لا زالت في سن الشباب الزمني أمام تلك الحضارتين العريقتين بشهادة الغربيين.
كل الحضارات التي بادت بعد أن سادت لقرون عددا، كان القول الفصل فيها للعامل الداخلي بالدرجة الأولى، ثم يأتي العامل الخارجي لاستكمال الانهيار، وهو ما حدث للاتحاد السوفييتي، ومن ورائه سور برلين.
عندما يعلو صراخ رأس النظام العالمي الذي كان جديداً في يوم ما وأصابه الكِبَر والكِبْر في آن واحد في وجه العالم أجمع، لا بد من وجود علة مستعصية بحاجة إلى اكتشاف مصل يقي العالم سوء تصرفات رأسه. ليس هناك دولة تسمى بالعظمى قادرة على محاربة الكل، وإنْ كان في ثناياه شيء من الضعف، وأبسط مثال على ما نقول هو ما جرى بين أميركا وكوريا الشمالية من مصافحة إعلامية، ثم فجأة توقف التسويق لها، لماذا؟ أميركا قبل أكثر من سبعين عاماً، لم تستطع حسم الصراع هناك، فهي الآن أضعف بكثير بعدما أنهكتها أفغانستان والصومال والعراق وسوريا وإيران، على الرغم من تواجدها العسكري في قرابة نصف عدد الدول الأعضاء في الأمم المتحدة.
لقد سادت أميركا العالم، يوماً ما، بقوتها الناعمة، رغم وجود قرابة ربع مليون جندي أميركي في مختلف بلدان العالم لم يستطيعوا فرض النظام الديمقراطي على الأنظمة التي لها اليد العليا عليها، ولا زالت، لأنها تجاهلت نقطة القوة العظمى الحقيقية، المتمثلة في التكنولوجيا الرقمية واقتصاد المعرفة والثورة الصناعية الرابعة.
طوال مسيرة أميركا الحضارية تم اغتيال أربعة رؤساء ومحاولتان فاشلتان، ضحايا التخلص من العنصرية البغيضة، وعندما وصل أوباما إلى سدة الحكم، تنفس العالم الصعداء عندما دخل اللون الأسود البيت الأبيض بعد محاولات لأكثر من قرنين.
اليوم، يقف ترامب لينفث أنفاس الكراهية من أعلى سلطة، وهو ما حدا بمنظمة العفو الدولية لرفع صوتها بـ «تويتر» لكي تقول للرئيس الأميركي ترامب: توقف عن خطابك وتحريضك على أعمال العنف. هذا الكلام كنا نسمعه في زمن ما قبل مانديلا بجنوب أفريقيا عن حكامها البيض، أما في أميركا اليوم، فستثبت الأحداث وبمرور الأيام بأن فيروس العنصرية أشد فتكاً بالأمم من «كورونا».