المستقبل مع وقف التنفيذ، يحدث في العمارة والتصميم أيضاً، وهي أكثر الفنون المعنية بالمستقبل، وفي أوضاعها الحالية تظهر قوة الجائحة، التي أعلنتها «منظمة الصحة العالمية»، وتجتاح الآن تصاميم ما لا حصر له من عمارات، ومبانٍ، وملاعب، ومسارح، ومتنزهات، وشوارع، ودور عبادة، وسرادقات، ومتاحف، ومحطات، ومطارات، ومدن بالكامل. آلاف المعارض المعمارية أُلغيت، أو تأجّل عقدها، بينها ما كان يتوقع أن يحدِث نقلة في العمارة العالمية، مثل «غاليري سربنتاين» في لندن، وسرادق «متحف الفنون الحديثة» (MoMA) في نيويورك، ومهرجان «كوتشيلا» للفنون في كاليفورنيا الذي يحضره عادة ربع مليون مشاهد، والمعرض الدولي «إكسبو دبي» الذي تغيّر موعده من أكتوبر العام الحالي إلى أكتوبر من العام المقبل.
وبانتظار أن يحدد الخبراء ومديرو الأعمال رأيهم ويقيِّموا ما يحدث، يجعل التاريخُ المأزقَ الميؤوس منه لحظةً ثوريةً، تُحوّل الخسارة المعمارية الفادحة إلى تغيرات كبرى، تلجُ علينا حتى بيوتنا، حيث تقضي الحاجات الطارئة على أنماط تصميم غرف مستقلة للنوم، والأكل، والضيوف، والمكتبة، وتجعل الغرف مساحات منفتحة بعضها على بعض، ومتعددة الوظائف. والناس، كما في الثورات الكبرى، ضحية الأحداث وأبطالها، وها هم يقيمون في منازلهم مكاتبَ، وورش عمل، ومستودعات، وملاعب رياضية، واستوديوهات، ويقيمون مستبشرين صفوفاً مدرسية، حيث يلتقي الأطفال بمدرسيهم عبر الأونلاين، وتعقد لهم الامتحانات عبره أيضاً. وترتجل المدارس التي أعيد فتحها تصاميم الصفوف، وفق مفاهيم التباعد الاجتماعي، كذلك تفعل المطاعم، وحتى المستشفيات، ودور المسنين التي تُعتبر أوضاعها الصحية وتصاميمها السيئة مسؤولة عن المعدلات المفجعة للوفيات.
وتغيُّرات عمارة ما بعد الوباء أوسع وأعمق من تغيُّرات عمارة ما بعد الحداثة، المعنية بالمظاهر. وكما أعادت الكمامات وأردية الوقاية الطبية الاعتبار للكمامات الشرقية، والملايات المستخدمة في بعض أقطار آسيا، والبلدان العربية، يستعيد المنظرون المعماريون التصاميم التقليدية للمنازل العربية القديمة، التي تفصل ما بين «الحرم» حيث تعيش الأسرة، و«الديوان» الذي يستقبل الضيوف، ومدخل المنزل الذي يسميه العراقيون «مجاز» وفيه تُنزع الأحذية، وتُفرّغُ سلال المشتريات. و«المجاز» كالطوق يفصل ما بين خارج المنزل وداخله، ويملك أهمية صحية ووظيفية، تجعله بهواً يحتوي على مرفق وخزانة.
وكل من عاصر تغيّرَ تصميم مكاتب الصحف من غرف منفصلة إلى مساحات واسعة مفتوحة يعرف أنها لا تربك عمل الصحفيين، بل العكس تقيم حيّزاً افتراضياً يعزز عمل الكاتب، الذي عليه أن يركزّ أكثر. وتغيُرات أعمق وأشمل تقيمها الآن الجائحة، التي تقضي على الحدود المكانية والجغرافية. يبدو ذلك في الفضائيات، حيث إعلاميون عرب مخضرمون يبدون أكثر راحة وحيوية؛ إذ يعقدون من منازلهم لقاءات عبر الأونلاين، حتى مع العلماء، حول موضوع «فيروس كورونا» البالغ التعقيد.
وستفرض الجائحة تحقيق اتفاقات ومشاريع الدفاع عن المناخ والبيئة ومكافحة التلوث، وتعزز مفاهيم وتقنيات المباني البارعة أو الذكية، التي تحتوي على مكيفات هوائية تقضي على الجراثيم والفيروسات. والعمارة أعلى أشكال الأمل بحياة آمنة وسعيدة لمليارات الناس تتطور ما بعد الوباء، كما تطورت على امتداد القرن الماضي، الذي شهد جائحات كبرى. وشجاعة الناس وقدراتهم الفذة مكّنتهم من التأقلم والتعايش مع أوبئة التدرن الرئوي، والإنفلونزا الإسبانية، وإنشاء المنتجعات الصحية، والمنازل المضيئة، بشرفاتها المنفتحة على الطبيعة، حيث يتداخل المنزل والحديقة على غرار البيوت التقليدية في سوريا والعراق، وبلدان عربية أخرى. وفي مواجهة هذا الوقت الصعب أعيد افتتاح «مركز جميل للفنون» في مدينة دبي، مع بداية افتتاح المتاحف والغاليريهات في الإمارات العربية المتحدة، حيث تقضي التعليمات الرسمية حجز تذاكر الدخول قبيل ساعتين، لضمان مساحة مناسبة للتباعد الاجتماعي، وارتداء الزوار والموظفين كمامات، وقياس درجة حرارتهم عند المدخل.

*مستشار في العلوم والتكنولوجيا