تغيرت مفاهيم كثيرة بلا رجعة على إثر جائحة كوفيد-19، ومن غياب شمس العولمة التقليدية إلى انقراض مفاهيم الحرب الهجينة واستبدالها بالحروب غير المرئية، ومن المدن الحديثة التي تراقبها وتراقبك، وتفرض عليك أسلوب حياة معين إلى دبلوماسية العقار واللقاح، يبدو لي أن مفاهيم الإدارة والقيادة قد أصبحت كذلك من طي النسيان.
وحتى ننجح في منظومة الإدارة، وتكون أكثر نجاعةً وفاعليةً، سيكون مفتاح الإدارة العصرية في المستقبل هو التخلص من الأنظمة الإدارية المتكلسة، وإعادة هندسة التصميم التنظيمي للمؤسسات، وتغيير فكرة الإدارة كما وُرّثت منذ العصر الصناعي، حيث أصبح من المستحيل الآن بناء نجاح دائم دون أفكار ابتكارية من داخل المنظومة، ما يستوجب تحييد ديناصورات محاربة إدارة التغيير الذين يرفضون مجرد سماع كلمة تغيير، وهنا نشير إلى ضرورة الحد من طغيان الإجراءات غير القابلة للتكيف مع كل ما هو جديد، والتحديات الناشئة مع العمل الجاد على اكتشاف بؤر الروتين والخطط غير المرنة، ومن يقف خلفها من كتل جامدة، وجعل أصحاب الأداء العالي النوعي - من المتصالحين مع ذواتهم- يمسكون بزمام المبادرات الديناميكية، والسماح لهم بالإدارة الذاتية، من خلال الفرق المؤقتة في بيئة على درجة عالية من المرونة.
فمن غير المعقول القيام بتشغيل أشخاص، ليقوموا فقط بأداء العمل وفق وصفهم الوظيفي، وحكرهم في زاوية وظيفية معينة، ومحاصرتهم بعراقيل قانونية وتنظيمية وبشرية ليس لها حصر، دون الخوض في تفاصيل البيئة الخانقة التي وُضعوا فيها، ومعرفتهم من خلال ما يقال من تقييم مرؤوسيهم فقط، ويحضرني هنا قول الراحل «ستيف جوبز»: «ليس من المنطقي توظيف الناس الذكية، ومن ثم نقول لهم ما يجب القيام به، نحن نستأجر أشخاصاً أذكياء، حتى يتمكنوا من إخبارنا بما يجب القيام به».
ومن المعوقات التي تجهض الأداء المميز، تأتي لعنة الاستراتيجيات التي يتم التعامل معها بقدسية وتبجيل، ووضع خطط استراتيجية وتنفيذية وتشغيلية وفنية غير قابلة للتطبيق، ولا تتكيف مع البيئة المتسارعة في قطاع العمل والقطاعات ذات الصلة به، وتفشل في التعامل مع عدم اليقين، في ظل إدارة هرمية غير متناسقة مع معطيات الإنتاجية الصناعية المعرفية، والاقتصاد الحديث والدور المتنامي للذكاء الإصطناعي، والتعلّم والتحسين المستمر، وضرب كل ممكنات الإبداع والابتكار وخنق حاضنات الاختراع، ومنع أن يصبح عضو فريق الأمس هو نفسه رئيس فريق اليوم، وأن تتوفر المرونة وخفة الحركة التي تتوق إليها المؤسسات التي تتنفس من خلال المواهب، وإطلاق العنان لإمكاناتهم الكاملة والكامنة.
ولذلك، ينبغي ألّا يرتبط المنصب القيادي بطول سنوات الخدمة ونوع الشهادة العلمية والمهنية التخصّصية، وإهمال الصفات الشخصية والتوازن الروحي والنفسي، وصفات القيادة الموروثة والمكتسبة في الشخص، وقدرته على تقبل الإخفاق والفشل والنهوض مجدداً للقمة، والتواضع عند النجاح، وأن ينسب التفوق لفريق العمل، وأن يُبرز الشخصيات التي تخدم الصالح العام، بعيداً عن رأيه الشخصي وميوله، والتحلّي بالموضوعية، وجعل إدارة البيانات الكبرى ومدخلات ومخرجات التكنولوجيا الحديثة صديقاً له، وأن يسخرّها لخدمة المجموعة، ولإجراء ترتيبات عمل مرنة، تتفهم أن العمل جزء من حياة الإنسان وليس كل حياته، ونوعية ساعات العمل هي المهمة وليس طولها، ومكان العمل ومتى دخل وخرج من المؤسسة، واستخدام الأدوات التقنية الاجتماعية المتنوعة لتحليل الدوافع المحفزّة، وإعطاء حوافز للموظفين حسب طبيعة كل شخص.