يقوم الاقتصاد في أي دولة على مبادئ أساسية من بينها، وربما أكثرها أهمية، الاستهلاك، حيث يمثل عنصراً مهماً، بل ومحوراً في تحريك السوق وعجلة الاقتصاد الوطني كله، ولكن حتى يحقق الاستهلاك هدفه الأساسي هذا، فلا بد له من معايير وضوابط حتى لا تكون له انعكاسات سلبية، سواء على الفرد أو المجتمع أو الدولة، فإذا تجاوز الحدود المطلوبة والإمكانات المتاحة يصبح عبئاً كبيراً، بل وسبباً ليس فقط في تبديد المال، وإنما في تراكم الديون أيضاً، وربما الأهم، وهذا عنصر يغفل عنه الكثيرون، نضوب الموارد المتاحة، مهما كانت وفرتها، فما بالك إذا كانت موارد رئيسية، بل وتمثل حاجات أساسية وضرورية؟ ومن هنا، يحظى موضوع الاستهلاك بأهمية كبيرة في الدول التي تسعى إلى تحقيق التنمية المستدامة والحفاظ على النمو الاقتصادي بمستويات عالية، كما هي الحال بالنسبة إلى دولة الإمارات العربية المتحدة التي تقوم سياستها على توفير كل متطلبات العيش الكريم لكل من يقيم على أرضها، ولكن في الوقت نفسه تعمل على ترشيد الاستهلاك وتحرص الحكومة وكل مؤسسات الدولة على نشر هذه الثقافة، خاصة في مجالي الغذاء والطاقة، لأنها تخدم الفرد والدولة على حد سواء. ففيما يتعلق بترشيد الاستهلاك في الغذاء، وفي إطار زيادة الوعي الاستهلاكي للسكان، تطلق وزارة الاقتصاد عقب عيد الفطر المبارك مبادرتين مهمتين، وهما: «الشراء بحسب الحاجة»، و«اختيار منفذ الشراء». وتنطوي هاتان المبادرتان على أهمية كبيرة، خاصة في ظل جائحة كورونا (كوفيد-19) التي يمكن أن يستفاد منها كثيراً، حيث تهدف هاتان المبادرتان إلى توسيع نطاق الترشيد في شراء المواد الغذائية، وآلية التعامل مع المخزون الاستراتيجي من السلع والمواد الغذائية، وفي الوقت نفسه رفع معدلات الادخار الشهري، وذلك من خلال حصر أو تقليص بنود الإنفاق الأسري والاستخدام الأمثل للسلع والتقليل أو حتى الابتعاد -وخاصة في ظل هذه الظروف- عن السلع الترفيهية والكماليات التي لا داعي لها. والادخار بالطبع مهم جداً للفرد، كما للاقتصاد الوطني، حيث يساهم في توفير الأموال ومن ثم استثمارها في مشاريع منتجة تدر الأرباح على كل أطرافها، ما ينعكس في النهاية على الوضع الاقتصادي للفرد، وكذلك رفاهيته ويخدم أهداف الدولة في التنمية المستدامة.
ومن المجالات الأخرى المهمة التي تحتاج إلى ترشيد بالفعل هي الطاقة، التي تعد عصباً مهماً في الاقتصاد، وهي كالغذاء تقريباً لا يمكن الاستغناء عنها، وضرورية لاستمرارية الحياة والمشاريع المختلفة، ولكن هناك حاجة ماسة إلى ترشيد استهلاكها، وخاصة في دولة مثل الإمارات التي تشهد معدلات استهلاك عالية لأسباب، ربما من أهمها رخصها، رغم التكلفة العالية على الدولة في توفيرها. ولهذا هناك جهود حكومية كبيرة من أجل ترشيد الاستهلاك في الطاقة، وتعمل هيئة الإمارات للمواصفات والمقاييس على إطلاق نحو 34 مشروعاً جديداً لترشيد استهلاك الطاقة حتى عام 2026، منها 7 مشروعات للعام الجاري. وتهدف الاستراتيجية التي تتبناها إمارة أبوظبي في هذا الشأن إلى معالجة قضايا العرض والطلب من خلال تبني نهج شراكة متعددة الأطراف لتنفيذ 9 مشاريع يعول عليها كثيراً لخفض استهلاك الكهرباء والمياه بنسب كبيرة.
وتأتي هذه المشاريع والمبادرات انسجاماً مع دعوة صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، حفظه الله، للحث على ترشيد الاستهلاك في الدولة وتحويله إلى أسلوب حياة، بحيث يتحمل كل أفراد المجتمع المسؤولية والمساهمة في الحفاظ على موارد الوطن واستدامتها للأجيال القادمة، وهذا ما يعكس بالطبع رؤية استشرافية بعيدة المدى، لا يتحلى بها إلا القادة أصحاب البصيرة الذين ينظرون إلى مستقبل أفضل لوطنهم ومواطنيه.
عن نشرة "أخبار الساعة" الصادرة عن مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية