بدأ الحديث عن ولادة نظام عالمي جديد يتكرر وينتشر كأنه مقطوعة موسيقية غير متناسقة ومتناثرة، فصانع الألحان مرتبط بثوابت السّلم الموسيقي عبر نغمات محددة، كما أن المُنَظِّر لولادة نظام دولي جديد لا بد له من إدراك الكيفية التي تتكون بها بنية النظام، ووضع إطارٍ ما تسعى فيه كل دولة من منطلقات وظيفتها الأساسية إلى تحقيق أمنها وبقائها ومصالحها، وهذا الإطار يتشكل عبر المصالح الجيوسياسية للدول العظمى والكبرى والقوية وما تتمتع به من قوة مادية ومعرفية، إلى جانب عوامل أخرى مهمة مثل الموارد الطبيعية والصناعات وتطور بعض البلدان ووجود تكتلات إقليمية ودولية مع أهمية التشريعات الدولية. وعلى هذا الأساس، نعرض بعض محددات النظام الدولي:
الحرب الباردة: المبادئ الولسونية المثالية انهارت مع اندلاع الحرب العالمية الثانية كون الحرب سمة دائمة للمجتمعات الإنسانية «الهوبزية»، التي تتوقع الأسوأ من بعضها البعض. وعندما حوَّل الاتحاد السوفييتي في ظل حكم ستالين الشعوبَ والدول القريبة منه إلى بلدان شيوعية لتحقيق أمنهِ ومصالحهِ، لم تسعَ الولايات المتحدة إلى تقاسم النفوذ الدولي معه عبر إحياء اتفاق يالطا الشهير، بل هبَّت بمبدأ ترومان (مارس 1947) الذي قدم المساعدة لتركيا في مواجهة الضغوط السوفييتية في مضائقها المائية، وأيضاً إلى الحرب الأهلية اليونانية ضد الحزب الشيوعي. وقد مهد مبدأ ترومان لخروج مشروع مارشال (1947) للنهوض بأوروبا بعيداً عن الشيوعية القريبة من نفوس البؤساء من الشعوب الأوروبية، ثم رأى حلف «الناتو» النور1949 ليتبعهُ حلف وارسو 1955. وقد أخذت هذه الدائرة الصراعية الأيديولوجية تتسع نحو العالم بأسرة بزيادة استقلال الدول، وفي الوقت نفسه، أخذت تضيق عبر تنافس القطبين السوفييتي والأميركي في تحديد المسارات للدول في تحقيق مصالحها وأمنها، وما كانت حركة عدم الانحياز إلا محاولة لإيجاد محددات أكثر اتساعاً بين القطبين. 
انتهاء الحرب الباردة: لم يكن انتصاراً للقوة الرأسمالية البراجماتية الأميركية، بل، بصورة أدق، تكمن حقيقة الأمر في أن الاتحاد السوفييتي في ظل جورباتشوف استبدل هويته الماركسية التي قسمت العالم إلى قسمين، ودخل في إعادة بناء الهوية السياسية والأمنية والاقتصادية، كما فعلت اليابان وألمانيا اللتان تخلتا عن الصبغة الأمنية لتكوين هوية اقتصادية. وفي ظل غياب لغة التصادم الأيديولوجي بين الدول والأمم، برز البحث عن الهوية الثقافية والتاريخية والإثنية على مستويات عدة من دول وقوميات وجماعات، إلى جانب تعاظم دور الشركات العابرة للقومية وتزايد الصناعات واستنزاف الموارد، كما أن المعرفة أصبحت سهلةً وأكثر انتشاراً.
النظام الدولي الأحادي: كانت واشنطن مترددة بين طرحين في إعادة بناء مصالحها وهويتها الأمنية، الأول، تقاسم الأدوار الأمنية والسياسية مع روسيا والصين وبقائها في الريادة. الثاني، زيادة التدخل الدولي وإحداث تحولات ليبرالية في العالم وكأنها مؤمنة بمنظور نهاية التاريخ لفوكاياما، وقد اختارت السلوك الثاني بعد الحادي عشر من سبتمبر.
أخطر ما يواجه النظام الدولي المعاصر تغيُّر بعض أهم محدداته عبر تغير هوية مصالح واشنطن الأمنية والسياسية بشكل يؤثر سلباً على دورها في تحقيق الأمن للعديد من الأقاليم، لا سيما استقرار منطقة المحيط الهادئ. وربما يستطيع الاتحاد الأوروبي أن يعيد بناء نفسه أمام نمو وهيمنة العملاق الصناعي والاقتصادي الصيني الصاعد إلى الهرم العالمي. ولعل التنين الصيني قد أدرك أهمية إعادة هويته في مصالحه الاقتصادية والأمنية ليترك مسارات أكثر اتساعاً لتوفير فرص العمل ومراعاة الخواص الاجتماعية والثقافية في دول عدة مشتركة معه عبر طريق الحرير الجديد. ويبقى السؤال هل بنية النظام الدولي الجديد ستضع المسارات والمحددات في العلاقات الدولية عبر التكتلات والمواجهات الاقتصادية والتجارية؟