تختلف التقديرات بشأن تداعيات انتشار فيروس كورونا، الذي أصبح الشغل الشاغل للدول والأفراد في مختلف أنحاء العالم. لكن القدر المتيقن في هذا المجال، هو ما يتعلق بالتداعيات الاقتصادية الناتجة عن الإجراءات التي اتُخذت للحد من خطر هذا الفيروس، وشملت حظر تنقل الأفراد وغلق الكثير من المنشآت. فهذه التداعيات تحدث بشكل سريع، بل فوري في كثير من القطاعات الاقتصادية، ولا تنتظر انتهاء عملية مواجهة خطر كورونا، بخلاف الآثار السياسية والاستراتيجية. فقد انكمش الاقتصاد العالمي خلال ثلاثة أشهر فقط، بمعدلات تقترب من تلك التي نتجت عن الكساد الكبير على مدى ما يزيد على ثلاث سنوات (من أواخر 1929 إلى منتصف 1932). والمتوقع أن يزداد هذا الانكماش، بقدر ما تستمر القيود على الأنشطة الاقتصادية وإجراءات الغلق والحظر، التي اضطرت مختلف الدول التي ضربها الفيروس للجوء إليها. وليس مستبعداً، في هذه الحالة، أن يتحول الانكماش إلى ركود قد لا يقل مداه وخطره عما ترتب على الكساد الكبير.
ولذا، فقد بدأ عدد متزايد من الدول في تخفيف القيود على الأنشطة الاقتصادية، ومراجعة إجراءات الحظر والغلق، لكي تعود عجلة الاقتصاد إلى الدوران. لكن هذا التغيير يتطلب تحقيق توازن بين متطلبات مواجهة الفيروس، وضرورات إعادة فتح الاقتصاد، أو بين مواجهة الأزمة الصحية وحماية الأرواح، واحتواء الأزمة الاقتصادية وحماية الأرزاق. وهذا توازن صعب للغاية، لأن خطر فيروس كورونا مازال كبيراً. وتبدو هذه الصعوبة واضحة في تحذير منظمة الصحة العالمية من مغبة الاندفاع في رفع القيود على الأنشطة الاقتصادية، خوفاً من انتشار الفيروس بمعدلات أكبر، ودعوتها إلى «إدارة عملية الانتقال إلى الوضع الطبيعي بمنهج تدريجي وحذر بالغ وعناية فائقة».
والحال أنه لم يعد ثمة خيار إلا الشروع في إعادة تشغيل الأنشطة الاقتصادية وفق ضوابط تهدف إلى تجنّب وجود تجمعات تنتقل خلالها العدوى، أي السعي إلى تحقيق التوازن الصعب، لأن استمرار القيود المشددة على هذه الأنشطة، سيؤدي إلى تفاقم الأزمة الاقتصادية التي قد يزيد الخاسرون بسببها على ضحايا فيروس كورونا، وربما تؤدي إلى انفجار اجتماعي في بعض البلدان، أو مناطق في داخلها، على النحو الذي حذّر منه رؤساء بعض الأحياء التي تقع في ضواحي باريس قبل أيام. فقد ثبت أنه كلما توسع نطاق هذه القيود، اشتدت الأعباء على أعداد كبيرة من المواطنين، إما لخسارة وظائف يعملون فيها، أو لخفض أجور يحصلون عليها، أو لفقد مَن لا يعملون بشكل منتظم مصادر رزقهم. كما تزداد الأعباء التي تتحملها الحكومات، لأنها تضطر إلى تخصيص موارد للحد من معاناة المتضررين، عبر تقديم إعانات بطالة لمن يخسرون وظائفهم، وتوفير مساعدات للعمالة غير المنتظمة، وكذلك لمساندة الشركات ودعم قدرتها على الصمود.
وكلما طالت الفترة التي تُفرض فيها قيود مشددة، تفاقمت تلك الأعباء، وامتدت تداعياتها إلى مدى زمني يصعب توقعه، ويتفاوت من بلد إلى آخر، لأن رفع تلك القيود لا يعني استعادة الاقتصاد عافيته في التو، بل بداية عمل شاق للخروج من حالة الانكماش التي أصابته. غير أن الصعوبات التي تعترض تحقيق هذا التوازن كبيرة بالنسبة إلى الدول كلها أو معظمها. وهذا يفسر الجدل الذي تشهده بعض هذه الدول بشأن إعادة تشغيل الأنشطة الاقتصادية، والوقت المناسب للشروع في ذلك. وهذه مهمة لا تقل صعوبة، لعدم وجود وسيلة لتوقع الآثار التي يمكن أن تترتب على إعادة فتح الاقتصاد، وهل تزداد الإصابات، أم تعود إلى الازدياد في الحالات التي انخفضت فيها. فالوصول إلى حالة التوازن ليس سهلاً في مختلف مجالات الحياة، حتى في الظروف الطبيعية، فما بالنا في أزمة كبيرة داهمت العالم بشكل مفاجئ، ولم تكن معظم الدول مستعدة لها.
غير أنه ليس هناك مفر من الشروع في تخفيف القيود، لتجنب بلوغ الخسائر الاقتصادية المدى الذي يجعل الوضع مأساوياً، ويُضعف القدرة على معالجته في وقت معقول. وهذا ما دفع المزيد من الدول إلى الشروع في تخفيف إجراءات الحظر والغلق، فيما أعلنت دول أخرى عن تواريخ محتملة للبدء في إعادة تشغيل الاقتصاد، رغم أن دولاً سبقتها إلى هذا التخفيف اضطرت للعودة إلى إعادة فرض بعض القيود بعد ظهور حالات إصابة أو زيادتها. ولذا ستكون تجارب الدول التي تُخفف القيود اختباراً مفيداً لغيرها، على صعيد كيفية تحقيق التوازن الصعب.