يشتد الخلاف بين الوسط الديني والوسط العلِمي، منذ القِدم إلى يومنا هذا، تارة ويفتر أُخرى، حسب الحوادث والمصالح، اشتد بأوروبا في عصر النهضة والتنوير (القرن الخامس عشر الميلادي وما بعده)، وظهر قوياً إثر اختراع ماكينة الطباعة، بالخصوص ما يتعلق بطباعة الكتب المقدسة، واشتد عند ظهور نظرية عدم مركزية الأرض، وحركتها وكرويتها، ثم عن نظرية «أصل الأنواع» لتشارلز دارون (ت 1882)، هذا وضحايا أهل العلم كثيرون، وبينهم مِن الوسط الديني نفسه.
ظهر النزاع بالشرق الإسلامي مبكراً بين الفلاسفة ورجال الدين، وقراءة التهافتين: «تهافت الفلاسفة» لأبي حامد الغزالي (ت 550 هجرية) و«تهافت التهافت» لأبي الوليد ابن رُشد الحفيد (ت 597 هجرية) يكفي لأخذ فكرة عن ذلك النزاع العميق. اشتد عند محاولات الإنسان، ثم تمكنه مِن الصعود إلى القمر، وحتى نهاية عقد الستينيات، مِن القرن الماضي، كان الخلاف على شكل الأرض وحركتها، وأي نقاش أو جدل في الرؤى الدينية يؤدي بصاحبه إلى تهلكة التكفير.
هذا ما تعرض له الباحث والأكاديمي صادق جلال العظم (ت 2016)، بسبب شكه بما انتشر بين الوسط الديني، ودفعت قوى سياسية به، وهو ظهور السيدة مريم في حرب 1967، لإزالة العدوان الإسرائيلي، وإشارته إلى الذين يحاولون تكبيل القرآن الكريم، وهو كتاب هداية، بنظريات علمية، وكان يناقش كتاب يوسف مرْوة أحد المتبنين لفكرة الإعجاز العلمي في القرآن «الإسلام تجاه تحديات الحياة المعاصرة»، الذي ميز آيات منه في الرياضيات، وأخرى في النظرية النسبية، وفي المناخ، وفي علم الجيولوجيا، واعتبر العظم ذلك «توفيقاً تعسفياً» (مقدمة نقد الفكر الديني).
كذلك حصلت المواجهات بين رجال الدين وأهل الفن، فهذا معروف الرُّصافي (ت 1945) تعرض للتكفير، لأنه ألقى شعراً في مسرح التمثيل ببغداد في العشرينيات، فقال في مكفره: «يا أيها المفتي بتكفيرنا/ مهلاً فقد جئت بأمرٍ نَكيرِ/ بأي جهلٍ فيك مستأصلٍ/ علمتَ يا جاهلُ ما في الضَّميرِ/ وذاك أمرٌ ليس تنتاشه (تطوله)/ إلا يدُ الله العليم القديرِ (الديوان 1959).
ما تقدم، غيض مِن فيض الأزمنة الغابرة، إلا أن النزاع، وإنْ لم يهدأ، أشتد مع وباء «كورونا»، وتحديداً مع المعترضين على إغلاق دور العبادة، لأن الفكرة عند الغالبية من مرتادي المراقد والمقامات، أنها تحمي مِن السوء وتجلب الخير، وتمرض الإنسان وتشفيه، ولهذا تُقدم النذور والهدايا إليها، ويتم التوسل تحت قبابها، وبهذه الثقافة يكون غلق المرقد اعتداءً على المقدس، ومَن لا يقف ضده، لأي سبب كان، ستنزل به البلوى، فكيف تغلق أبوابها وتدخلها وسائل التعقيم؟! وما يدور في أذهان الزائرين، وعاندوا إجراءات التعقيم والإغلاق، هو كيف تكون هذه الأمكنة قادرة شافية مِن الأمراض وإبعاد السوء ويُستجاب فيها الدعاء، والصلاة فيها خير من مئة أو ألف صلاة خارجها، ومَن قصدها بُرئ مِن علته وحُلت مشكلته، كل هذا وتدخلها فرق صحية كي تقوم بتعقيمها مِن الفيروسات التي تسبب الوباء الفتاك؟!
فهل معنى هذا أنها غير قادرة على منع الفيروسات مِن دخولها؟! هذا الأمر الذي يوهم الكثيرون، لكن مَن يزور تلك الأمكنة، وهو معتقد أنها لا تضر ولا تنفع، وإنما استحق الراقدون فيها الذكر الطيب، لا يفزع مِن إغلاق أبوابها، خصوصاً إذا لم تكن له مصلحة على طريقة منتسبي الأحزاب الدِّينية الذين ينشطون خلال مواسم الزِّيارات إذا اقترنت بالانتخابات، يظهرون موشحين بالخرق الخضراء والثياب السُّود، يوزعون الطعام، مقدار وقت التقاط الصور.
أرى أن عملية التعقيم الصحي للأضرحة وبيوت العبادة، كنائس أو مساجد، يوهمنا أمراً، ألا وهو أنه لو تأملها المؤمنون بجلبها للخير والشر، ستعيد السجال بين العقل والدين، وتخليصهما مِما يلحقهما مِن التدين الخرافي، يمارس غرسه رجال دين مختصون بإنتاجه. يتبع ذلك تدهور في مجالات الحياة، ويبقى الوباء الحقيقة الوحيدة، وأن تأمل تعقيم الأضرحة منه قد يحدث انقلاباً تنويرياً، لفائدة الدين والعقل معاً. لكن:«ذو العَقلِ يَشقَى في النّعيمِ بعَقْلِهِ/ وَأخو الجَهالَةِ في الشّقاوَةِ يَنعَمُ» (المتنبي: لهوى النفوس)، مع أن التعرض للوباء موت زؤام وليس نعيماً!