تكشف التجربة البشرية أن الأزمات الكبيرة تضع الإنسان أمام تحديات غير معهودة مع إنسانيته، حيث تظهر أخلاقه الصافية تجاه الآخر باعتبارها حصيلة السلوك البشري، وهي جوهر المعاني السامية، ولب القيم، ما ينقل الإنسان إلى محطات جديدة من إنتاج القيم، وهكذا تولد القيم النبيلة من لهيب الأزمات ونيران الشدائد.
لا ريب أن جائحة كورونا فرضت على «الأنا» الإنسانية، تحديات جادة، على مستوى الفكر العالمي، ومدى انشغاله بهاجس البقاء، فأسهمت في نبش فلسفة الإنسان عند كبار الفلاسفة في تاريخ البشرية، وأعادت النظر في العلاقة مع الآخر؛ بصورة أكثر دقة وأعمق طرحاً، ففيروس «كورونا»، كشف مجدداً أن الأنا ناقصة، وأثبت أن كمالها هو الآخر؛ لأن عالمنا أشبه بسفينة كبيرة، تحمل البشرية على متنها، وما يصيب الإنسان في الشرق، يجده الآخر في الغرب، فلا مجال للأنانية أو قيم الصراع الذي يؤدي إلى الفناء.
وقد كانت «الأنا والغيرية» محط اهتمام الأديان والفلسفات، منذ أن درج الإنسان على وجه البسيطة، فالقول في «الأنا والآخر»، يختزل وجود الإنسان على مر الأزمان، وهو وعي حقيقي؛ لمشكلة التفرد البشري، وماهية الوعي، وجوهر العقل.
في خضم هذه الأزمة، تهاوت بعض المقولات التي تحدثت عن توحش الإنسان، كما فعل «هوبز» في نظريته الذئبية، التي جعلت من الإنسان ذئباً يسعى للفتك بالآخر وافتراسه، بينما في الواقع باتت البشرية مقتنعة أنها تمضي بمركب واحد، وأن عليها التفتيش عن حل لهذه الأزمة.
وكان سارتر ينحو هذا المنحى، منتصراً للرؤية الأنوية وإلغاء الآخر، حيث يرى أنَّ الأنا في صراع أبديّ مع الآخر، فالآخر هو الموت المتحجب، أي الموت الكامن وراء الزاوية، وينتظر الانقضاض عليك في أي لحظة؛ لأنَّ الآخر؛ وفق معتقده، هو بمثابة الجحيم للأنا، وأي حوار بين الأنا والآخر إنما هو صراع مستمر. ومثله يرى هيغل أن الآخر هو النقيض، منتصراً للإقصاء. كذلك يرى شترنر أن ذاته هي الذات الوحيدة الكائنة في العالم، وليست الذوات الأخرى إلا مجرد امتثالات لذاته، كما أن هناك من يلغي إمكان الاتصال الإنساني كالفيلسوف نيتشه.
كشفت كورونا، أن هذه النظريات هي مجرد أفكار بائسة، تنزع إلى الأنانية والفناء. وينتصر بذلك فلاسفة الحياة، من أمثال «جول سيمون»، الذي يبرهن أن حب الآخر مفطور في النفس الإنسانية، ويرفض الأنا القاصرة، وإيمانويل ليفيناس، الذي يرى وجوب تحرر الذات من سجن الأنانية، وأن يحول الخوف منه إلى الخوف عليه.
أما الإسلام بنصوصه الناصعة، فقد اعتنى بهذه القضية، وفتح أفق التضامن والحوار مع الآخر، وفسر الآخر بالأخ الذي نشترك معه في الآدمية والتكريم كما في قوله تعالى «وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ»، وكما يقول النبي (صلى الله عليه وسلم) «كلكم لآدم وآدم من تراب»، ولم يكتف الإسلام بمجرد الأخوّة، بل نقل الآخر إلى قاعدة «التعارف» وقرر قيم المحبة والتضامن فقال النبي (صلى الله عليه وسلم) «يا أيها الناس أفشوا السلام وأطعموا الطعام»..
إن السبيل لتجاوز محنة كورونا، يحتم تلاقي البشرية على قيم التضامن، وهي قيم تبني الحياة وتدعو للجمال وحب الآخر، وتتمثل هذه المعاني الإنسانية الرفيعة في شخص سيدي، صاحب السمو، الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، (حفظه الله) الذي يسمو في هذه الأزمة بقيم التضامن والتعاون، فيعلن الوقوف إلى جانب الكثير من الدول الأخرى، حفظه الله ورعاه وسدد خطاه.
* كاتب إماراتي