فرضت الأزمة الراهنة المتعلقة بتداعيات تفشي وباء كورونا، طرح أفكار وتساؤلات لم تكن ذات أولوية من قبل، بحيث يمكن الحديث الآن عن اقتصاد ما بعد كورونا، وعن القيم التي تتطلب الانبعاث من جديد وإعادة إحياء مضامينها، من باب التكيف مع المستجدات، وإعادة صياغة أولويات واحتياجات الإنسان الأساسية، بما يكفل استثمار الموارد المتاحة بالشكل الأفضل.
هذا المحور لم يتم التطرق إليه، لأن أغلب المفكرين والكتاب انشغلوا بسرد توقعات لما بعد كورونا على المستويات الاستراتيجية والتحالفات والتكتلات الدولية، والتداعيات المنتظرة للجدل الحاد الذي يدور بين كل من الولايات المتحدة الأميركية والصين.
وما لم يتم الالتفات إليه، رغم أنه الأقرب للاحتياجات الحياتية اليومية للإنسان، هو الاقتصاد وشؤونه المستقبلية، وما تتمحور حوله من قيم وعادات وآليات توزيع وإمداد واستهلاك.
ما يهمنا في هذا التناول هو ثقافة الاستهلاك التي ظلت في منطقتنا العربية تقوم بالنسبة للمقتدرين على الإعلاء من شأن التفاخر والتبذير وإظهار الكرم واقتناء ما يفوق حاجة الفرد والأسرة، وإنفاق الأموال على احتفالات يتم الصرف فيها ببذخ شديد.
وأبرز ما يشجع على فتح هذا الملف هو الخطاب الرسمي الجديد الذي يحث صراحةً على بعث قيم اقتصادية تحرص على الاستدامة، وتدعو إلى الكف عن الهلع الاستهلاكي.
المدخل إلى إعادة النظر في علاقتنا بالموارد والحفاظ على أمننا الغذائي، يتجلى في توجيه صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، خلال المحاضرة التي استضافها مجلس سموه عن بُعد قبل أيام. وخلالها أكد سموه أن الأمن الغذائي منظومة متكاملة لا تتعلق بإنتاج الغذاء فقط، بل بثقافة التعامل معه، وذلك عن طريق ترشيد الاستهلاك وعدم الإسراف، إذ إن لدينا عادة الإسراف والتي هي من ضمن العادات التي نريد التشديد على التخلص منها. وخلال حديث سموه حول هذا النقطة، كانت ابتسامات الرضى والسعادة ترتسم على وجوه المشاركين في المحاضرة عن بُعد، انطلاقاً من الشعور بأن القيادة تلامس جوهر الثقافة الاقتصادية التي ينبغي أن تسود المجتمع، خاصة أن الترشيد والحكمة في الاستهلاك من السمات الأصيلة المرتبطة بالأجداد الذين تعايشوا في الأزمنة الماضية مع شح الموارد، ولم ينقص ذلك التعايش الحكيم من إبراز قيم الكرم والتعاون والمساندة.
إن الحديث عن ترشيد الاستهلاك يعني بالضرورة حماية وتأمين الموارد وضمان استدامتها. وكان هدف الاستدامة ولا يزال منذ سنوات يمثل أحد أبرز القضايا التي يركز عليها القطاع الحكومي الإماراتي في خططه المستقبلية كافة، القائمة على تنويع مصادر الاقتصاد وتأمين مستقبل الأجيال القادمة.
وبالعودة إلى الكلمات الحكيمة التي قالها الشيخ محمد بن زايد في سياق المحاضرة التي استضافها مجلس سموه، نلمس التركيز على إدراك التحديات التي يواجهها عالم اليوم، في مقابل مدى النجاح الذي حققته دولة الإمارات في تأمين سلسلة الإمداد الغذائي، في وقت يجتاح فيه القلق مختلف دول العالم، خوفاً من النقص في المخزون الغذائي.
وقد اعتبر سموه أن الظرف الراهن على المستوى العالمي يمثل فترة امتحان، ورغم قلق دول العالم بشأن الإمدادات الغذائية، أثبتت الإمارات ريادة في التخطيط وجاهزية في إمداد السوق المحلية التي تخدم 10 ملايين شخص.
لذلك يلمس الجميع أن قيادة الإمارات كانت ولا تزال تنشر الثقة والطمأنينة، عن يقين بأن الكوادر الإماراتية والسواعد المخلصة في المرافق كافة، تقوم بواجبها على أكمل وجه. وتبقى المهمة الأبرز هي تأمين الغذاء والدواء، وجعل المواطنين والمقيمين على أرض الإمارات لا ينشغلون بهذا الهم، طالما وقد أصبح على رأس أولويات القيادة.

*كاتب إماراتي