شوارع الحمراء التي نامت كثيراً في عهد كورونا، ها هي تستفيق ببطء، هنا وهناك، ثم تستعيد حركتها فجلبتها، سبق الناس قرار تخفيف منع التجول، والعزل، والإغلاق، وفتحوا أبواب محالهم، نظفوا الواجهات، ووقفوا ينتظرون رزقهم. أول الناهضين السيارات والدراجات النارية، بضوضائها وزماميرها. بدا الشارع وكأنه يستعيد مشاهد قديمة من «التسكير» والفتح. أيام الحروب والمعارك والقنص.. والموت. فالشارع هو ذاكرة المدن و(مخيلتها)، وساعاتها ومواقيتها وأحوالها وتحولاتها.
أستذكر وأنا من سكان الحمراء منذ نصف قرن، تلك الحروب والميليشيات المسلحة، وأصوات الرصاص والمدافع وصراخ الناس استنجاداً في أحيان كثيرة. فالمدن حساسة وهشة، على شراسة ورحابة أول ما يتأثر وأول ما يؤثر وأول ما يهرب وأول ما يعود.
كم مرة، مشيت في هذه الشوارع أيام الحروب، وكانت موصدةَ الأبواب والنوافذ، صامتة، خائفة. وكم مرة شهدتُ «عوداتها» أو «انبعاثاتها»، لكن هذه المرة من نوع آخر. العدو واحد، والمحاربون كثر، العدو مجهول، والمواجهون بلا عدد.
كورونا أغلق مدن العالم كلها، شرّدها إلى الداخل، نفاها إلى ما وراء الجدران، كمم وجوهها.. وها أنا أرى المشاهد من جديد وكأنها شريط من فيلم قديم، حتى أصوات صرير بوابات المحال وهي تفتح. حتى وجوه الناس الخارجة من منازلها، وأصواتها، وصمتها. لكن، كأنما فارق ما هذه المرة: فالعودة ما زالت ناقصة، أو غير ميمونة، أو غير حقيقية: كأنما فتحت المحال ولم تفتح، عاد الناس ولم يعودوا. ليس هناك وقف إطلاق نار نهائي مع كورونا، فجولة من تلك الجولات التي عرفناها في الحرب، بل كأن الرجوع (وما أحلاه!) نوع من التفقد، وحساب الخسائر، والتخوف من المستقبل، أبواق السيارات المزدحمة هنا وهناك، تصدح.
كثرت السيارات والدراجات.. وقلّ العائدون (دائماً تعود الأشياء قبل الناس) بلا فرح ولا حزن، لا اشتياق ولا تصديق. بعضهم يتوقف عند واجهة ملابس أو أحذية لحظة، ثم يُكمل طريقه. آخرون يجدّون السير بحذر، بوجوه «متنكرة» بكرنفال ندرت أصوات المارة، وباعة اليانصيب وعربات الخضار وتبادل التهاني. أقل من جنازة وأكثر من ذهول ملتبس، فالأزمات تتجاوز وباء كورونا إلى الاقتصاد، وتتجاوز الاقتصاد إلى الأوضاع السياسية الخطرة عبر محاولة بعض الأطراف السياسية ضرب النظام الليبرالي والمصرفي والديمقراطية أو ما تبقى منها، دون أن ننسى عودة الحراك الذي انتزع شبابه الكمامات، ونزلوا إلى الشوارع هذه المرة بإصرارٍ عنيد، فاصطدام مع الجيش وقوى الأمن.
أهي إذن ثورة جياع؟ بل أكثر، لأنها تختلط وتمتزج مع المطالبة بالسيادة ومحاكمة الفاسدين. إنها استثنائية الوضع اللبناني (معظم الدول الأخرى عندها كورونا واحد، وليس عندها معركة تحرر.. قد تكون فيها صراعات وليست على حافة المجاعة، فيها بوادر مجاعة لكن عندها دولة، ليس عندها ميليشيات تحكمها..). كل هذه الأزمات لا يمكن اختزالها في واحدة، ولا اختصارها بلغة واحدة، وشعور واحد. فأصحاب المحال والفنادق والعمال والموظفون، يعرفون أنه إذا زال كورونا.. فهناك كورونا آخر.. ويتذكرون أننا نعيش هذه الكورونات منذ أكثر من نصف قرن، بل أكثر من قرن أيضاً.
أوليست هذه جلجلاتنا الأبدية؟ كأن لبنان وُلد ومعه وُلد الخطر: دائماً على حافة الخطر. كل شيء نهائي فيه ولا نهائي، دائم ومؤقت، حتى وجوده نفسه.

*كاتب لبناني