قليلة هي الأنباء المُفرحة في العالم منذ انتشار فيروس كورونا، ومن أهمها في اللحظة الراهنة التقدم الذي يحدث في بعض المحاولات الجارية للتوصل إلى لقاح يقي الناس من الإصابة بهذا الفيروس ويعالج المصابين به.
وتأتي هذه الأنباء من عدد قليل من المختبرات العلمية، في مقدمتها اثنان هما معهد جينر في جامعة أوكسفورد البريطانية، ومركز أبوظبي للخلايا الجذعية، لقد حقق العلماء في معهد جينر تقدماً كبيراً في الطريق إلى لقاح تُثبت التجارب الجارية عليه نجاحاً ملموساً، وإذا صح توقع هؤلاء العلماء، وآخرون وُضعوا في صورته، فسيكون ممكناً البدء في إنتاج هذا اللقاح ‬في ‬سبتمبر ‬المقبل.
كما حقق العلماء في مركز أبوظبي للخلايا الجذعية إنجازاً مهماً، إذ نجحوا في تطوير علاج للفيروس، تقوم فكرته على استخراج الخلايا الجذعية من دم المريض، وإعادة إدخالها إلى الرئتين بعد تنشيطها بطريقة مبتكرة، وأظهرت التجارب نتائج مبشرة، تتيح استخدامه خلال فترة قصيرة لزيادة فاعلية بروتوكولات العلاج المعمول بها الآن.
نبآن مُفرحان في ذاتهما، كما في دلالتهما على سلامة رؤية من لم يفقدوا الثقة في العلم، رغم الشكوك التي انتابت كثيرين في العالم نتيجة التأخر، أو ما بدا لهم أنه تأخر، في إيجاد لقاح وعلاج ينتظرهما البشر بفارع الصبر، فرق كبير، بالنسبة إلى من لم تساورهم مثل هذه الشكوك في قيمة العلم وقدرته، بين أن يُبتكر لقاح وعلاج في مراكز أو معاهد علمية، وأن تتوصل إليه إحدى شركات الأدوية الكبرى، صحيح أن هذه الشركات تعتمد على العلم وأهله، ولدى بعض أكبرها مراكز بحثية، غير أن اقتران لقاح أو علاج باسم معهد تابع لجامعة عريقة مثل أوكسفورد عمرها أكثر من تسعة قرون، ومركز أبحاث حديث مثل مركز أبوظبي للخلايا الجذعية الذي لا يزيد عمره عن عام وشهرين، يؤكد معنى التراكم العلمي الذي ما زال مستمراً منذ إرهاصاته الأولى في القرن السادس عشر، عندما حقق عالم الفلك كوبرنيكوس نقلة كبرى في معرفتنا بالكون، عبر التحول من فكرة مركزية الأرض إلى نظرية مركزية الشمس، وقد أصبحت معروفة قصة تطور هذا الاكتشاف على يدي جيوردانو برونو، الذي دفع حياته ثمناً لإصراره على صحة ذلك الإنجاز العلمي، إذ حكمت عليه محكمة تفتيش بالحرق، وهو ما تعرض له بعده جاليليو جاليلي، ونجا منه في اللحظة الأخيرة.
لقد تقدم العلم عبر معارك تاريخية خاضها علماء استخدموا عقولهم، فأغضبوا من نصّبوا أنفسهم حراساً للدين في أوروبا، ويواصل أمثالهم في العالم الإسلامي سعيهم لإعادة العالم إلى ما قبل عصر إشراقة العقل، عبر التشكيك في قدرة العلم، واستغلال سوء استخدامه حيناً، وتأخره في الاستجابة لتحديات تواجه البشرية حيناً آخر.
والحال أن للعلم استخداماته المختلفة، وبعضها متناقض، وهو ليس فريداً في ذلك، لأن لمختلف مناحي الحياة وجهين أو أكثر، ورغم إساءة استخدام العلم في إنتاج أسلحة فتاكة على سبيل المثال، ثبت أن اختراعاته التي غيرت حياة الناس إلى الأفضل أكثر، كما أن الإسراع لاتهام العلم بالعجز عن إيجاد لقاح أو دواء لفيروس كورونا فور ظهوره غير منطقي، العلم ليس سحراً، والعلماء لا يحملون عصى سحرية يضربون بها فيُنتجون ما يريدون وقتما يشاؤون، للعلم قواعده، ولتجاربه ضوابطها.
وهذا يفسر التطور التدريجي للعلم منذ أواخر القرن السادس عشر، اعتماداً على التراكم الذي يتحقق بمرور الوقت، ويعني هذا أن أي عمل علمي يتطلب وقتاً مناسباً لاختباره والتأكد من صحته، خاصة عندما يتعلق بحياة مئات ملايين البشر، وها نحن نقترب من الحصول على علاج مساعد توصل إليه مركز أبوظبي للخلايا الجذعية، ولقاح أوشك معهد جينر في أكسفورد على إثبات صلاحيته، وربما أدوية أخرى يبتكرها علماء في أماكن أخرى، في زمن يعد قياسياً، وعندئذ تُنقل المسؤولية من مختبرات العلم إلى عالم «البيزنس»، لإقناع إحدى شركات الأدوية الكبرى بالتخلي عن المطالبة بحقوق حصرية عالمية قبل الاستثمار في إنتاجه، لأن العالم يحتاج كميات مهولة لا تقدر عليها شركة واحدة.
وسيكون هذا اختباراً لشركات أدوية كبرى بشأن استعدادها، أو بعضها، لتحمل مسؤوليتها في وصول اللقاح إلى مختلف البلدان بطريقة عادلة، وبالتالي عدم المغالاة في أرباحها، ولكن في كل الأحوال، فقد أصبحت استعادة الثقة في العلم قريبة وأكيدة.