هل كان القرار الألماني تصنيف «حزب الله» اللبناني تنظيماً إرهابياً، توافقياً أم أنه تعبير عن تحول جذري في الرؤية الألمانية للشرق الأوسط، خاصة على ضوء العلاقات القوية بين «الحزب» وإيران؟ إن فهم المشهد المتداخل والمعقد للعلاقات الإيرانية الدولية، يستلزم إدراك العمق المستمد من العلاقات الثقافية والتجارية التي تعززت إبان الحقبة الشاهنشاهية، لا نتيجة نجاح النظام الثوري في طهران في إحداث مثل تلك الاختراقات الاستراتيجية. أما الأمر الآخر، فهو لتعويض الفراغ الذي أنتج الأزمات التي تسبب فيها ذلك النظام، من احتجاز موظفي السفارة الأميركية في طهران، إلى انخراط طهران في دعم وتمويل الإرهاب الدولي.
نتيجة لما تقدم، احتلت ألمانيا موقعاً متقدماً في تمثيل دول المعسكر الغربي، بهدف ابقاء قنوات اتصال عالية الكفاءة مع هذا النظام المارق، وكذلك أملاً في تحفيزه على الانخراط إيجابياً، كعضو فاعل، في المجتمع الدولي. وقد أسهم ذلك الدور الألماني في احتواء وحلحلة أزمات عدة، عبر تاريخ هذا النظام الجديد في طهران، من ملفات الاختطاف التي نفذها «حزب الله» إلى ملف تبادل الأسرى بين إسرائيل و«حزب الله»، إلا أن ما سبق أضفى نوعاً من الشرعية السياسية على «حزب الله» في أوروبا، انطلاقاً من فرضية الاحتواء عبر الاستباق السياسي، وكذلك افتراض أن القبول بالنموذج السياسي، المتمثل بنظام الجمهورية الإسلامية في إيران ومشتقاته السياسية، قد يمثل نوعاً من التصالح التاريخي مع المظلومية الشيعية إسلامياً.
الفرضية الأخيرة تعززت ثقافةً في المقاربات المعتمدة من قبل المعسكر الغربي بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، مما استوجب تطوير نظرة غير تقليدية للتوازنات القائمة في الشرق الأوسط، انطلاقاً من رد أصل كل النزاعات الدائرة فيه لتركته التاريخية دينياً. ذلك قاد إلى بروز ارتدادات واختلالات اجتماعية في المجتمعات الغربية؛ إذ تغولت الهويات الأصولية الاسلامية ذات النزعة الراديكالية المنغلقة اجتماعياً عن ثقافة محيطها. أذرع تلك التيارات، ومن ضمنها «حزب الله» وظف ثقله الاجتماعي والاعتراف السياسي في تطوير منظومات أمنية واقتصادية، عبر العالم، في دعم الحزب وتمكينه في لبنان، وكذلك دعم مشاريع إيران السياسية عبر العالم، انطلاقاً من أوروبا.
عملية «كساندرا» التي أعلنت إدارة مكافحة المخدرات الأميركية عن بعض تفاصيلها عام 2016، كشفت عن مدى انغماس «حزب الله» عبر منظوماته في الاتجار في المخدرات، والسلاح، وغسيل الأموال بالإضافة إلى الاتجار في البشر. وامتدت أنشطته عبر كل القارات، مستفيداً في أحيان كثيرة من الغطاء السياسي الذي توفره إيران. وقد برهن الحزب على حقيقة توحشه اللاأخلاقي في الأزمة السورية.
ألمانيا فضلت أن ينظر لها مركز الثقل الاقتصادي أوروبياً، مخافة إيقاظ أشباح تاريخها السياسي أوروبياً، إلا أنها أثبتت حيوية ثقلها الاقتصادي والسياسي من الأزمة المالية عام 2008، وكذلك في دورها القيادي إنسانياً في أزمة اللاجئين، بالإضافة إلى أزمة كوفيد-19 (كورونا المستجد). وربما أن ما حفز ألمانيا على الاضطلاع بذلك الدور المتقدم، هو تخاذل قوى كبرى عن القيام بذلك. ولم تكتف ألمانيا بذلك، بل انخرطت في لعب دور قيادي في ملفات خلافية أخرى مثل الملف الليبي، وربما قد يكون الدور الذي لعبته المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة سبباً فيه وفي نجاح مؤتمر برلين حول ليبيا في يناير الماضي. ما نحتاجه الآن هو تطوير الرؤى المشتركة بين أوروبا والشرق الأوسط، وقد يحفز الدور المتقدم، الذي قررت ألمانيا الاضطلاع به، باقي دول أوروبا على صناعة توازن استراتيجي متكافل مع دول الشرق الأوسط، من أجل تحقيق أهدافٍ استراتيجية، أولها إعادة الاستقرار في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
*كاتب بحريني