حل فيروس كورونا على أوروبا الغربية مخلفاً أعداداً كبيرة من الضحايا أمام عجز في القدرات الصحية، إلى جانب ضعف الدعم والمساندة بين دول الاتحاد الأوروبي، وهو ما أثار حفيظة بعض الشعوب الأوروبية التي أخذت تتحسس هوياتها الذاتية ومصالحها، وهي التي طالما عطست لدخول بيت الاتحاد أو أرسلت زفراتها عندما تهدَّدَّها الخروج منه.
ولعل أولى عطسات الاعتلال داخل البيت الأوروبي مرتبطة بكون شريحة كبيرة من شعوب أوروبا الغربية أصبحت متحررة من قيود الخطر الأمني المرتبط بالاتحاد الروسي، فروسيا اليوم لا تحمل أيديولوجية مضادة وموجهة إلى الأمن الأوروبي كما كانت في الحرب الباردة، كما أن هناك بروزاً للنزعة اليمينية والشعبوية في الولايات المتحدة وروسيا وفي أوروبا الغربية، الأمر الذي يقوض من قدرة الاتحاد الأوروبي على توسيع عضويته وفي مده الليبرالي وتكتله الاقتصادي الإقليمي. وحتى الحديث عن الغزو الاقتصادي الصيني لأوروبا عبر طريق «الحرير الجديد»، الذي جعل معظم البيوت الأوروبية تُكدّس منتجات صنعت أو جمعت في الصين، لا يجد صداهُ، إذ من المفترض أن تزيد الدول الأوروبية من السياسة الحمائية لتحافظ على فرص العمل واستمرار الصناعات المختلفة والمتعددة فيها. فلطالما كانت هذه الدول تجيد لعبة العولمة والتجارة الدولية لتحقيق مصالحها البراجماتية.
والعطسة المدوية التي تنتقل عدواها بسرعة في أوصال الاتحاد الأوروبي، تتمثل في وجود مطالب لتفضيل السياسات الوطنية على حساب سياسات الاتحاد الأوروبي. وعلى سبيل المثال، فإن ألمانيا التي لا توجد فيها حركات انفصالية قائمة على العِرق كبريطانيا وبلجيكا وفرنسا وإسبانيا، تشهد ضغوطاً كبيرة في السياسات الوطنية في الولايات الألمانية. وأمام اتساع هذه المطالب القُطرية والخاصة بالمناطق والولايات والمدن في بعض الدول الأوروبية، سيموت الحلم الذي يصبو إلى المزيد من الاندماج نحو الانتقال من السيادة القطرية إلى هيئات أوروبية.
ومن العطسات المصحوبة بالسعال، بروز وتفضيل الانتماء الثقافي لهوية ما عن غيرها من الهويات في أوروبا، وهذا الأمر واضح في الدول الأوروبية الغنية التي تحظى بخدمات صحية عالية وفرص للعمل، فهناك شريحة اجتماعية كبيرة ترفض وصول هذه الخدمات والفرص لغيرها من شعوب أوروبا، وتزايدت صرخات الرفض هذه مع موجات التدفق من بعض سكان أوروبا الشرقية بحثاً عن العمل والخدمات. ومن الأسباب المهمة أيضاً، موجهات الهجرة وأزمة اللاجئين في أوروبا. وعلاوة على ذلك، فقد فشل الاتحاد الأوروبي في النهوض بالدول الأوروبية الضعيفة كاليونان وبولندا وإلى حد ما إيرلندا والبرتغال، كما أن الدول الأوروبية القوية عُرضة لأزمات اقتصادية كإسبانيا (2008-2014). وقد يسهل التعرف على سمة مهمة في المجتمعات الأوروبية لمن عاش فيها أو بحث في سلوكها، وهي التفاعل مع السياسات العامة انطلاقا من مسألة أموال الضرائب وأين تذهب، ومدى توفر الخدمات والدعم وفرص العمل. ومن الأهمية بمكان إدراك أن هناك ارتباطاً متجذراً وضيقاً بين الهويات الاجتماعية وبين المدن والمناطق، التي ينتج عنها وجود رفض شديد وربما طبيعي لوجود من هو مختلف عرقياًّ وثقافياًّ، فليست مدن أوروبا، باستثناء العواصم والمدن الكبيرة، محلاًّ لتطبيق التعددية الثقافية، كالتي تحدث في أستراليا وكندا والولايات المتحدة حيث المساحات شاسعة والهجرة جزء أصيل من التكوين الاجتماعي الوطني.
مع كل هذه العطسات والسعال، يحمل الاتحاد الأوروبي عللاً مرتبطة بالهوية الاجتماعية، والمطالبات المتزايدة بالاستئثار بالسياسات العامة الداخلية خاصة في الدول الغنية، بعيداً عن شعوب الاتحاد الأوروبي، إلى جانب سُقم الخطط الاقتصادية الأوروبية الفاشلة في النهوض باقتصاديات الدول الضعيفة منها، فمن منا لا يتذكر إذلال اليونان في المساعدة المالية، ناهيك عن وباء الأحزاب اليمينية التي تضعف من تماسك الاتحاد. فهل يملك بيت الاتحاد حلولاً لمعالجة هذا الوهن؟ وحتى وإن أدت عطسة كورونا الكبرى إلى سقوط المظلة الأوروبية ستبقى القارة العجوز موطناً لتفاعلات سياسية واقتصادية واجتماعية بين دولها وشعوبها من منطلقات وثوابت الجغرافيا والتاريخ والاقتصاد والثقافة، وأيضاً بدواعي المصالح القُطرية.
*كاتب ومحلل سياسي