أثر تفشي فيروس كورونا على الاقتصاد العالمي، إذ أدخله في حالة ركود وشلل. ففي الصين مثلا، أظهرت بيانات رسمية أن الاقتصاد الصيني انكمش بنسبة 6,8 في المائة في الفترة بين شهري يناير ومارس مقارنة بالفترة ذاتها من العام الماضي، ليسجل أول انكماش منذ عام 1992 على الأقل. ويتوقع صندوق النقد الدولي أن يتأثر الاقتصاد العالمي الذي سيتقلص بثلاثة في المائة في 2020 بأكبر أزمة اقتصادية منذ ثلاثينيات القرن الماضي. ‬وتسابق ‬العديد ‬من ‬الدول ‬الزمن ‬لإنقاذ ‬كبريات ‬شركاتها ‬من ‬المجهول، ‬فقد ‬أعلنت ‬منذ ‬أيام ‬الحكومة ‬الفرنسية ‬أن ‬شركة ‬الطيران «‬إيرفرانس» ‬ستحصل ‬على ‬قروض بقيمة ‬سبعة ‬مليارات ‬يورو ‬لمواجهة ‬أزمة ‬فيروس ‬كورونا. ‬وأكد ‬وزير الاقتصاد ‬الفرنسي ‬أن ‬تأميم ‬الشركة «‬ليس ‬مطروحاً»‬، ‬وإنما ‬تسعى ‬بلاده ‬بهذه ‬القروض ‬إلى «‬إنقاذ ‬الوظائف ‬المباشرة ‬وغير ‬المباشرة» ‬في ‬الشركة. ‬كما ‬أشار إلى ‬أنه ‬تتم ‬حالياً ‬دراسة ‬منح ‬حوالى ‬خمسة ‬مليارات ‬يورو ‬من ‬القروض ‬المصرفية ‬المضمونة ‬من ‬الدولة الفرنسية ‬لمجموعة ‬«رينو» لصناعة ‬السيارات. ‬ومن ‬جانب ‬آخر ‬وافق ‬حكام ‬البنك ‬المركزي ‬الأوروبي ‬على السماح ‬للمصارف ‬بالاقتراض ‬منه ‬بضمان «‬سندات ‬عالية ‬المخاطر»، ‬سواء ‬أكانت ‬صادرة ‬عن ‬حكومات ‬أو ‬شركات ‬في ‬منطقة ‬اليورو، ‬لمواجهة ‬تداعيات ‬جائحة ‬فيروس ‬كورونا ‬على ‬الاقتصاد ‬العالمي. ‬ويعني ‬هذا ‬القرار الاستثنائي ‬بالنسبة ‬للأسواق ‬بالدرجة ‬الأولى ‬السندات ‬الحكومية ‬الإيطالية ‬المهدّدة ‬بالهبوط ‬إلى ‬خانة ‬السندات ‬عالية ‬المخاطر ‬أو ‬كما ‬يطلق ‬عليها ‬بلغة ‬السوق «‬سندات ‬المضاربة»‬.
إن الوضع هو أولاً وقبل كل شيء أزمة صحية اضطرت الحكومات إلى اتخاذ خطوات لحماية حياة الناس. ‬لكن ‬في ‬المقابل ‬سيفضي ‬التراجع ‬الحتمي ‬في ‬التجارة ‬والإنتاج ‬إلى ‬حدوث ‬عواقب ‬مؤلمة ‬على ‬الأسر ‬والشركات، ‬فضلاً ‬عن ‬المعاناة ‬الإنسانية ‬التي ‬يُسببها ‬المرض ‬في ‬حد ‬ذاته.
الأزمة الحالية أخطر من أزمة 2008 ومن كل الأزمات السابقة، ومن الوارد جداً أن تستمر لبعض الوقت، حيث تشدد الحكومات قيودها على الأعمال التجارية لوقف انتشار الفيروس، وطالما أنه يشكل خطراً على حياة الناس فلا يمكن أن تعود الحياة العادية والأعمال التجارية كما كانت.
ولفهم أزمة 2008 يكفي مشاهدة فيلم ‏The Wizgard of Lies ‬من ‬بطولة ‬الممثل ‬روبير ‬دونيرو، ‬والذي ‬يصور ‬حدثاً ‬فريداً ‬يمكن ‬اعتباره ‬أكبر ‬عملية ‬نصب في التاريخ تشهدها ‬دولة ‬ديمقراطية ‬متقدمة ‬تعج ‬بالمراقبات ‬المالية ‬المتنوعة ‬والقوانين ‬الدقيقة، ‬وأعني ‬الولايات ‬المتحدة ‬الأميركية. ‬بطل ‬عملية ‬النصب ‬هذه ‬هو ‬برنارد ‬مادوف ‬الذي ‬تم ‬اعتقاله ‬في ‬11 ‬ديسمبر ‬عام ‬2008 ‬عن ‬طريق ‬مكتب ‬التحقيقات ‬الفيدرالي ‬بناءً ‬على ‬بلاغ ‬من ‬ابنيه ‬خوفاً ‬من ‬أن ‬يتابَعا ‬هما ‬بنفسيهما ‬إذا ‬قاما ‬بتغطية ‬الحقيقة ‬بعد ‬اكتشافها. ‬وتعتبر ‬عملية ‬النصب ‬تلك، ‬والتي ‬تدعي ‬سلسلة ‬بونزي، ‬عملية معقدة ‬تم ‬فيها ‬الاستيلاء على أزيد من ‬50 ‬مليار ‬دولار ‬وجرت ‬على ‬عقود ‬من ‬الزمن، ‬ولا ‬أعرف ‬في ‬التاريخ ‬البشري ‬عملية ‬نصب ‬مثل ‬هذه، ‬حيث ‬تمت ‬على ‬يد ‬شخص ‬واحد، ‬وكتم ‬احتيالاته ‬حتى ‬عن ‬زوجته ‬ناهيك ‬عن ‬ولديه ‬اللذين ‬كانا ‬يشتغلان ‬عنده. ‬كيف ‬كان ‬يحتال ‬مادوف ‬على ‬ضحاياه؟ ‬المسألة ‬بسيطة ‬جداً. فقد ‬كان ‬يأخذ ‬من ‬أموال ‬المستثمرين ‬الجدد ‬ليعطي ‬منها ‬للمستثمرين ‬القدامى، ‬وبذلك ‬كان ‬يعطي ‬للجميع ‬انطباعاً ‬بالنجاح ‬الدائم ‬والأكيد ‬والسريع ‬والاستثنائي ‬في ‬عالم ‬مالي ‬يطبعه ‬المجهول ‬واللايقين ‬والغموض.
عوامل الجشع والطمع والاحتيال وغياب الشفافية.. هي التي ولّدت الأزمة المالية لسنة 2008 وهي التي خلقت رجلاً مثل برنارد مادوف، وهي أيضاً التي تخلق تلكم السياسات العجيبة للدول القوية في النظام العالمي وتفرضها بذكاء على بعض الدول الأخرى. أما أزمة اليوم فهي أعقد من ذلك، لأنها ناشئة عن عامل عجيب هو عبارة عن فيروس تسبب في إغلاق الحدود وإيقاف كل اقتصادات العالم وفرض قاعدة «ابقوا في مساكنكم» كقاعدة أساسية للنجاة والبقاء على قيد الحياة.
ومن الواضح أن التعافي سيكون بطيئاً، وأن أنماط الاقتصاد الحالية ستتغير في إطار عولمة جديدة مغايرة لسابقتها، إذ ستكون لها روح في هذه المرة.

*أكاديمي مغربي