ما كُتب عن طاعونٍ في العصور الوسطى (على كثرة الطواعين!)، بالشرق وبالغرب، كما كُتب عن طاعون أواسط القرن الرابع عشر الميلادي (749هـ/1348م). والكُتّاب عنه بالشرق وبالغرب أربع فئات: فئة الأطباء (وهي الأكبر)، وقد انصرف أفرادها للمداواة من جهة، ووقف الانتشار بالنصائح الوقائية من جهة أخرى. وفئة الرحّالة، وهي تعتمد الملاحظة والوصف السريع. وفئة الفقهاء المسلمين ورجال الدين المسيحيين، وكانوا ينهمكون في تبيان معاني أو مآلات ودلالات «المرض الهائل» كما سماه لسان الدين ابن الخطيب (776هـ/1374م). والفئة الرابعة هي فئة المؤرخين الذين قدموا وصفاً موجزاً ثم ذهبوا باتجاه استخلاص العِبَر والتوقعات المستقبلية، ومن هؤلاء ابن خلدون (808هـ/1405م) الذي كان بتونس يومها بينما كان صديقه لسان الدين بالأندلس على مقربة من مدينة المَرِية التي انطلق منها الوباء فيما يقال.
أمّا ابن خاتمة (770هـ/1368م)، وكان طبيباً وله اهتمام بالجغرافيا، فقد رسم في كتابه «تحصيل غرض القاصد في تفصيل المرض الوافد» خريطةً لانتشار الوباء. وقد رأى مثل ابن الخطيب الطبيب والمؤرخ أنّ البؤرة بإسبانيا كانت مدينة المرية. وهما يزعمان أنّ ذلك حصل بسبب «فساد الأهوية وفساد الفواكه والأغذية». ثم يلاحظ ابن خاتمة أن المدن والبلدات الأخرى بإسبانيا وفرنسا وإيطاليا والمغرب وتونس حدث فيها الوباء في الوقت نفسه: فأين كان المنطلق أو «البؤرة»؟ الكلمة من عند الرئيس ترامب. أما ابن خاتمة ولسان الدين فيقولان إنّ الثقات من تجار النصارى القادمين عليهم بالمرية ذكروا لهم «أنّ ابتداءه كان ببلاد الخِطا، وبلاد الخطا بلسان العجم هي بلاد الصين...! وأنه ما زال ينتشر.. إلى عراق العجم..». بيد أنّ ابن الخطيب سرعان ما يتخلى عن البؤرة الصينية لصالح البؤرة الحبشية أو البؤرة الفلورنسية. في حين يظل ابن خاتمة أكثر هدوءاً إذ يقول: إنّ سبب اختلاف النقل أنه مهما ظهر بجهة من الجهات.. ظنّ أهلها أنّ مبدأ هذا الحادث منها!
كانت ملاحظات الأطباء والفقهاء دقيقة، سواء لجهة وصف علامات المرض على الأجساد أو لجهة كونه ينزل أول ما ينزل بالأحياء الفقيرة الكثيفة السكان. وقد اتفقوا أيضاً على أنّ العزل عن الخارج، والعزل بين المرضى وغير المرضى بالداخل، هو الضرورة القصوى. ثم يفترق الطرفان فيذهب الطبيب لالتماس الأسباب الطبيعية والبشرية في الهواء والغذاء وقذارة سواحل البحار وقتلى الحروب، بينما يلتمس الفقيه والكاهن الأسباب الإلهية ومعاصي البشر. وفي القرن الثامن الهجري ما عاد أحدٌ ينكر العدوى استناداً إلى بعض ظواهر الأحاديث. لكنّ الأمر لم يَخْلُ من نقاش في أقدار الله، واعتبار ذلك من البلاء الذي ينبغي اللجوء إلى الله للخلاص منه. وقد شاهد ابن بطوطة بدمشق عام 749هـ/1348م كيف هرع الحاكم والقضاة والجمهور المسيحي والمسلم إلى مسجد في سفح جبل قاسيون دعوا عنده، بعد أن كانوا قد صاموا ثلاثة أيامٍ متتابعة. وهذه الممارسات لصدّ الوباء هي التي نصح بها فرنسِس الأسيزي من قبل والذي حمل صليبه وسار.. إلى القدس ومصر، تقليداً للمسيح حامل خطايا البشر. وقد اعتبر بعض رجال الدين المسيحي وبعض الفقهاء أن ذاك الطاعون الهائل ربما كان نذيراً بالقيامة.
أما ابن خلدون فيقدم وصفاً بارداً لكنه قياميٌّ لـ«الطاعون الجارف في منتصف هذه المائة الثامنة». فقد نزل بالعمران شرقاً وغرباً «وتحيّف الأُمم.. وانتقص عمران الأرض بانتقاص البشر، فخربت الأمصار والمصانع، ودرست السبل والمعالم، وخلت الديار والمنازل، وضعفت الدول والقبائل.. كأنما نادى لسان الكون في العالم بالخمول والانقباض، فبادره إلى الإجابة..». ما بقي إلا أن يعتبر ابن خلدون طاعون أواسط المائة الثامنة أمارةً من أمارات يوم القيامة الحافل بالملاحم والأهوال. لكنه ما يلبث أن يستدرك في الفقرة التالية ليبشر «بخلْقٍ جديدٍ ونشأةٍ مستأنفة وعالم مُحدَث». وهنا يتصور ابن خلدون مهمته: مهمة التأريخ للعالم الذي يوشِكُ أن ينقضي، ويَظهر عالمٌ جديد: «احتاج لهذا العهد من يدوِّن أحوال الخليقة.. ويقفو مسلك المسعودي لعصره، ليكونَ أصلاً يقتدي به من يأتي من المؤرخين».
ابن خلدون يتوقع عالماً جديداً، لكنه ليس من أهله، ولا يستطيع أو لا يريد المشاركة فيه. لذلك يعهد لنفسه بمهمة المؤرّخ للزمن الذي يوشك أن ينقضي.

*أستاذ الدراسات الإسلامية بالجامعة اللبنانية -بيروت