ما نشهده من انهيار اقتصادي متسارع يجعل البشرية كلها على حافة الخطر. والقضية ليست في انهيار أسعار النفط أو في إغلاق الشركات العملاقة أو الارتفاع الضخم في معدلات البطالة أو الكساد التجاري العام فحسب، بل في خطر انهيار منظومة القيم الأخلاقية الإنسانية التي كانت للأسف مهمشة من قبل ظهور كورونا، لكن ملامح الانهيار تجلت في عدد من بلدان العالم التي سارع كثير من أبنائها لشراء الأسلحة استعداداً لأية فوضى محتملة، فضلاً عن زيادة في عدد الجرائم والسرقات ونهب المتاجر وما سُمي في الإعلام بالقرصنة الحديثة وحرب الكمامات. ومن أسباب التخوف أن العالم أهمل منظومة القيم الأخلاقية وأحل مكانها منظومة المصالح الذاتية، حيث انتشرت مصطلحات أنانية من مثل «السياسة تحركها المصالح» و«الدول تبحث عن مصالحها فقط» بحيث يبدو الأمر وكأنه إقرار بفصل المصالح الذاتية عن المصالح الإنسانية العامة والقيم الأخلاقية الجماعية، ما يفتح نافذة على قاعدة لا أخلاقية شهيرة هي «الغاية تبرر الوسيلة».
ولا أحد ينكر أهمية المنفعة الذاتية وتحقيق المصلحة الوطنية أو القومية، لكن ينبغي أن يتم ذلك ضمن سياق أخلاقي يضمن ألا تتحقق المصالح الذاتية على حساب مصالح الآخرين، وفي العالم سعة من الخير تضمن تحقق مصالح الجميع، ولا يمكن أن يطمئن أحد إلى تحقق مصلحته وضمان استمرارها ما لم تتحقق مصالح الآخرين ضمن ميزان يؤمّن حداً أدنى من العدل. ولا ننكر أن الأخبار التي تحدثت أواخر العالم الماضي عن انتشار وباء في الصين لم تثر بقية بلدان العالم كثيراً، فما شأن الآخرين بما يحدث في يوهان؟ لكن الوباء سرعان ما خرج من الصين ليهدد العالم كله.
والعجب أن ينشغل كبار قادة الرأي في العالم بإشعال فتيل الصراعات حول كرسي قيادة العالم، وبالترويج لقيام حرب عالمية ثالثة، وبشيطنة الصين حيناً، واتهام الولايات المتحدة حيناً آخر، وتأجيج الصراع بين دولتين عظميين.. وكأن العالم لن يكتفي بما دمره فيروس كورونا، بل يحتاج إلى دمار أكبر!
يسرف بعض المحللين في تخيل العالم بعد كورونا، وبعيداً عن ضرام الحرب التي يتوقعون، يعلن اليساريون أن العالم سيعود إلى الأنظمة الاشتراكية التي تسيطر فيها الدولة على كل الصناعات والمرافق العامة، لأن الأزمة كشفت ضعف وإخفاق الخصخصة في مواجهة الأزمات.. وبعضهم يرى أن العولمة انتهت، وأن العالم سيعود مغلقاً في كانتونات، وسينهار الاتحاد الأوروبي، وكل التنظيمات العابرة للقارات، وسيقوى حضور القوميات والإثنيات والخصوصيات، وستنتهي اتفاقيات التجارة الدولية، وينكفئ العالم كلٌ على مصلحته الخاصة..! وأرى في هذا وهماً كبيراً، فثورات الاتصال والمعلوماتية والتفاعل التجاري والثقافي العالمي فتحت آفاقاً لا يمكن إغلاقها. ولئن كان من الضروري معالجة الآثار الضارة للعولمة وإنهاء طغيان مصالح الأقوياء على مصالح الضعفاء، فإن توحد سكان الكوكب في إطار إنساني، يجب أن يبقى هدفاً لا رجعة عنه، بل ينبغي تعزيزه، وهذا ما تفعله الدول الخيرة، وما نشهده في دولة الإمارات كنموذج، وهي ترسل المعونات للمحتاجين في كل مناطق العالم.
ولست ممن يتخيلون أن البشرية ستفيد من درس الكورونا المفجع، فتعيد النظر في استراتيجياتها الصناعية وفي أولويات البحث العلمي الذي حقق نجاحاً هائلاً في صناعة الموت، وفي سباقات التسلح، لإعطاء الأولوية بدلا من ذلك لصناعة الحياة والحفاظ عليها، والتوجه لمكافحة الأمراض المستعصية والفقر المدقع الذي يعاني يقاسيه أكثر من مليار ونصف المليار من البشر، فضلاً عن مكافحة أسباب الحروب التي تهدد العالم اليوم على الأقل في خمس مناطق حيوية منه، من بحر الصين إلى كوريا، إلى أوكرانيا إلى العالم العربي إلى إيران، مما يجعل انهيار النظام العالمي الراهن حتمياً إذا استمر جنون الحرب والداعين إليها.
وعلى الصعيد العربي آن للعالم أن يجد حلولاً للقضايا الكبرى التي تهدد حياة ومستقبل ملايين البشر، مع أن الحلول متاحة بمجرد تنفيذ قرارات الأمم المتحدة، وقد بات البطء الدولي في المعالجة سبباً في سقوط المزيد من الضحايا الذين تفوق أعدادهم يومياً بمرات أعداد ضحايا كورونا.

*وزير الثقافة السوري الأسبق