ليس كل الناس سواء أمام وباء كورونا الرهيب، فهناك الخائفون جداً الذين يقفون على حافة الوسواس القهري، ينظرون إلى كل من حولهم في ارتياب، بمن فيهم أهل بيتهم، إن خرج أحدهم وعاد. وهناك الحذرون الذين باتوا يحسبون خطواتهم بدقة مدركين أنها تقلل من احتمالات إصابتهم أو تؤخرها، مراهنين على الزمن الذي يأخذ الوباء إلى الذروة ثم يدحرجه إلى الهاوية صريعا.
وهناك اللامبالون إما خوفا مما هو أشد، لاسيما إن كان ليس لديهم سوى الاختيار بين الموت جوعا والموت تحت وطأة الوباء، وإما جهلاً أو تبلداً، وهناك القدريون، وبعضهم يعقلها ويتوكل، وأغلبهم ينساقون بلا هدى ولا روية، وهناك المغرورون الأنانيون الذين يعتقدون أن عافيتهم تنجيهم غير عابئين بأن يكونوا جسراً لنقل الوباء إلى ذويهم ممن ليس لديهم عافية مثلهم.
وهناك الواهمون الذين لا يزالون يعيشون في ظلال نظرية المؤامرة ويجزمون بأن الوباء مصنع في معامل جهاز استخبارات ما، وكأن معرفة سبب تفشيه، سواء كان ابنا شرعيا للطبيعة أم ولد سفاحا على يد علماء أشرار، كافية في حد ذاتها لتقي صاحبها من أخطاره المحدقة. لكن هناك من يمتلك جسارة ومنعة، فلا يتهور ولا يجبن، لأنه يدرك أن الخوف الشديد سيضعف قدرته على المقاومة إن دق العدو بابه، نهاراً أو ليلاً.
وتدخل التقاليد والظروف والسياقات الاجتماعية لتجعل الناس متباينين كذلك في التعامل مع الإعلان عن المرض، فهناك من تدفعهم ثقافتهم التي اعتادت الانفتاح والشفافية إلى الإبلاغ عن أنفسهم إن أصابهم مكروه، وهناك من يتكتمون معتقدين أن حلول الوباء في أجسادهم يمثل عاراً ما بعده عار، ولهذا يحبسون أنفسهم وأنفاسهم معولين على أن ينجحوا في معركتهم المعزولة ضد الغازي اللامرئي، وقد يحدث هذا فلا يحسبون من بين المصابين، وقد يتهالكون في منتصف المسافة فيضطرون أو من حولهم إلى الاعتراف، أو يفارقون الدنيا في صمت، دون تسجيلهم من ضحايا الوباء إلا في ذاكرة من معهم وحولهم.
ويتباين الناس أيضا في مستوى فهم ما يتلقونه من معلومات ملأت الفضاء الإلكتروني وساحت إلى الأسماع يتناقلها الناس حول الوباء، فهناك من تؤهله ثقافته وفهمه لتمحيص ما يصل إليه، فيبين النافع من الضار، غير خاضع لتهوين أو تهويل، وهناك من تتجاذبه المعلومات فتضربه يمنة ويسرة، لا تجعله يستقر على حال. وفي الوضع نفسه يختلف الناس في رغبتهم في التلقي أو التعرض للمعلومات المتدفقة بلا هوادة، فهناك من يدفعه قلق الدائم إلى الجلوس، في عزلته أو حجره، أمام التلفاز متنقلا من قناة إلى أخرى وهو يلهث، كي يعرف كل جديد عن غزوات الوباء في الشرق والغرب. وعلى النقيض هناك من يصر على الابتعاد مدركا أن مثل هذه المعرفة تثير الخوف بل الرعب، وتحول الحياة إلى جحيم مقيم.
وحتى التفكير في مرحلة ما بعد انجلاء الغمة يختلف فيها البشر من فريق إلى آخر، فهناك من يعدون بتنظيم حياتهم بحيث يعطون بالا للوقاية من الأمراض المعدية أيا كان نوعها أو قدرتها على الانتشار أو التحدي الذي تمثله للأجساد والنفوس. وهناك من يجرفهم الحنين إلى الزحام، يريدون الحارات والشوارع والساحات وأماكن الترفيه والعمل على حالها القديمة، يتكدس فيها الناس بلا تردد، كما كانوا قبل أن يجبرهم الوباء على الابتعاد والتجنب والتحسب.
الوباء واحد في انتشاره وضرباته وإصراره على التحدي وما يسببه من أعراض لمن يغزو حناجرهم متسللا إلى صدورهم. أتى إلى الأرض وهو كذلك في تكوينه وأضراره ليجد أهلها مختلفين، فهذه عادتهم، وهي إن كانت عادة حميدة تصنع التنوع الخلاق في أيام الرخاء، فإنها تسرع من فتح باب الهلاك وسيعا في أيام الشدة.
روائي ومفكر مصري