الجمعة 17 مايو 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
الترفيه

عبدالكريم عبدالقادر.. ما يسترو الشجن

عبدالكريم عبدالقادر.. ما يسترو الشجن
20 مايو 2023 01:08

إبراهيم الملا  

«يا صوتي المشحون شجن، 
دافي الشعور 
أَوْلَه عليك 
أَوْلَه على همسِك 
أَوْلَه على لمسة إيديك»
كأن عبدالكريم عبدالقادر يربت برفق على كتف الغياب، ويقول إنه هنا، شاخصُ في الوله، ومجسّد في الهيام، حيث صوته يتفرّع إلى آلاف الأصوات، وأغانيه الأثيرة تسافر في السديم، وترتحل في ضباب الأمكنة، لا يؤطّرها زمان، ولا تشوبها غفلة، في صوته عطرٌ، وهمسٌ، وملمس، والحب عنده ضوء يسري في كيان الليل، يُومِض ويلمعُ ويُبهِج، كلّما استأسد الفراق، وكلّما هيمن الهجر، وكلّما أوغل في ضلوعنا الوجع. 
لم يحتفِ أحدٌ بالشجن كما احتفى به «عبدالكريم عبدالقادر»، طَرَباً ومَشْرباً وأداءً وانتماءً، هذا الشجن الشفّاف، الطاغي، والآسر، منذ أن أطلقت حنجرته الماسيّة صدى الذاكرة وارتعاشاتها في قلب كل عاشق، وفي هوى كل مشتاق، هنالك تحت ظلال بيوت «العريش»، وجدران البيوت القديمة، و«سكيكها» وحواريها، وترابها المنثور كما اللؤلؤ تحت لمعة «الفنر»، ورجفة القناديل المتأرجحة من نسيم الليل، وصخب المحبّة، خرج صوت عبدالكريم دافئا، متدفّقا، متهاديا بخفّة وألفة، وسط جموع السامعين، المنبهرين بهذا النمط المغاير من الطرب، المتفرّد بإيقاعه الشجيّ، والجامح بهيامه وسطوته على الأفئدة قبل الآذان. 
دشّن عبدالكريم عبدالقادر لمرحلة جديدة في المشهد الغنائي الكويتي خصوصا، والخليجي عموما، فحظي وهو في أوجّ تألقه بلقب «الصوت الجريح» استناداً لغلبة الأسى والوجد على حسّه، ونظرا لما قدّمه من لون طربي شعبي تشابكت فيه بقوة الأبعاد الثلاثة الأساسية في معمار الغناء، وهي: الكلمة واللحن والأداء، فصارت أسطواناته وأشرطته وأغانيه المبثوثة في الإذاعة والتلفزيون، بوصلة الجميع، وقِبْلَةً للراغبين في التماهي مع «رومانسية الألم» - إذا صحّ الوصفُ – ذلك أن نتاجات عبدالكريم غلب عليها طابع الفقد والتراجيديا والهجران، وكانت ثيمة الحنين أو «النوستالجيا» هي كلمة السرّ لعنفوان تجربته، ومفتاح ما استغلق عليه الفهم، لتفسير نجاحات أغانيه وانتشارها الواسع والسريع بين متلقّي إبداعاته، بشغفٍ لا ينقطع، وجنوحٍ لا يغرب، واشتياقٍ لا ينطفئ. 
صار عبدالكريم أمثولة الذاكرة الجمعية بامتياز، ذاكرة التحولات الاجتماعية، والإرهاصات المبكرة للطفرة المدنية في دول الخليج، ما قبل وما بعد الستينيات، أي في النقطة الفاصلة بين زمنين لهما ثقلهما وحضورهما وتأثيرهما في منظومة الحياة، ولعلها النقطة الفاصلة أيضا التي ساهمت في خلق التوازن الفني الذي نجح عبدالكريم عبدالقادر في استثماره بشكل مثالي، وكان لهذا النجاح ثمنه وتضحياته ومكابداته دون شك، ولكن «فنان الاغتراب» استطاع أن يوجّه دفتّه بأناة وتمهّل، وبنسق تصاعدي، ومن دون تقديم تنازلات أو تخلٍّ عن أسلوبه الغنائي ونمطه الفني، فتمكّن من صياغة هويته الإبداعية بدقّة صارمة ومنهجية واضحة، وأن ينحت ملامح حضوره المتألق بنضالٍ ودأبٍ شديدين. 
نقلة نوعية
استلهم عبدالكريم عبدالقادر في أغانيه المبكرة جانبا من الميراث الحافل لفن الصوت الخليجي الذي يعود زمن ظهوره في المنطقة إلى مائتي عام، وهو الفن الذي تبلور في الجلسات الشعبية وانتقل بعدها من الحيز الخاص، إلى الحيز العام مع اختراع آلة (الغرامافون) أو ما يعرف خليجيا بـ «البشتخته» الذي انتشر في المقاهي وفي بيوت المقتدرين، وتأسّس جماهيريا في البحرين والكويت على أيدي رواّد هذا الفن أمثال: محمد بن فارس، وضاحي بن وْليد، ومحمد زويّد في البحرين، وعبدالله الفرج، وخالد البكر وأخيه يوسف البكر، وعبداللطيف الكويتي، ومحمود الكويتي، وعوض الدوخي في الكويت، حيث ظل تأثير هذا الفن مهيمنا على المطربين الجدد، الذين اتجهوا بعد ذلك نحو مسارات متنوعة، وطرائق مختلفة للغناء منذ أواسط الستينيات، وقدّم عبدالكريم عبدالقادر في هذه المرحلة من الانعطافة الفنية والتاريخية، مجموعة أغنيات اشتهرت وقتها، مثل: «لا تكون ظالم» و«ليل السهارى» و«آه يا الأسمر يا زين»  وبهذه الأعمال انتقل عبدالكريم بالأغنية الكويتية من طقوس الجلسة الشعبية العفوية والفطرية، إلى مناخ احترافي آخر بدأ مع الأسطوانة، ثم شريط الكاسيت، ثم إلى استوديوهات التسجيل والبث في الإذاعة والتلفزيون، وصولا إلى ظهور شركات الإنتاج التي صنعت طفرة في عالم الكاسيت، ومنذ نهاية السبعينيات إلى بدايات الألفية الجديدة صار اسم عبدالكريم عبدالقادر متصدرا للمشهد الغنائي في الخليج، وفي بقاع كثيرة من العالم العربي. 
ورغم خصوصية أغانيه ساهم عبدالكريم في إحداث نقلة نوعية للتذوّق السماعي، وعمل على تنشيط سوق الأغنية الخليجية، ومنحها الديناميكية والرواج والحيوية في الفترة الذهبية لصعود الأعمال المتكاملة والجامعة بين قوة الكلمة وعمق المعنى وجودة الأداء وتناغم الموسيقا وإتقان اللحن.
كاريزما مستترة
أنتج مطرب الأجيال ومايسترو الشجن في ذروة عطائه بهذه الفترة مجموعة رائعة من الأغاني التي لا تزال تشنف آذان المستمعين، وما زال صداها يرنّ في كل بيت خليجي وعربي، وفي كل زاوية يركن إليها (ليل السهارى)، ومن أهم هذه الأغاني: «الله ياني ولهان» و«أجرّ الصوت» و«أعترف لج»، و«أحسب الجيّات»، و«تأخرتي» و«أسمع صدى صوتك»، و«أحوال العاشقين»، و«الله على الأيام»، و«أنا رديت لعيونج» و«أنا من الأيام» و«باختصار»، و«بسّك زعل»، وغيرها الكثير من الأعمال التي تركت بصمة لا تُمحى من ذاكرة عشاقه ومُريديه من المنتمين للقصيدة الراقية، والغناء العذب، والإيقاع الساحر. 
امتلك «أبو خالد» كاريزما مستترة وخاصة به، لأنها بنت طبيعتها، ولصيقة بشخصية عبدالكريم نفسه وبتواضعه وأريحيته، فهذه الكاريزما المتوائمة مع أخلاقه العالية وإخلاصه لموهبته، هي التي جذبت إليه عمالقة وأعمدة القصيدة الغنائية والتلحين في الكويت وفي منطقة الخليج، وفي مقدمتهم الشاعر: بدر بورسلي، والموسيقار والملحّن: عبدالرب إدريس، والشاعر: عبداللطيف البناي، حيث خاض مع هؤلاء الثلاثة الكبار مرحلة خصبة ومثمرة من العطاء الفني البهيّ والمشرق، الذي امتد لأربعين عاما، ويليهم الملحنون: راشد خالد الخضر، وسليمان الملا، وأنور عبدالله، ثم التف حوله رجال دعموه وساهموا في استمرار وهجه الفني، مثل: الملحن أحمد باقر والشيخ خليفة العبدالله والدكتور عبدالله العتيبي. 
أما الملحن الكبير عبدالرحمن البعيجان فكان له قصب السبق في احتضان ورعاية موهبة عبدالكريم عبدالقادر في بداية الستينيات، وتطويرها لاحقا كي تشب على عودها، فكان البعيجان هو صاحب الفضل في انطلاقة هذا الصوت الواعد القادم من سواحل الكويت ومن ثقافتها العريقة المحتشدة بالفن والجمال وتوقير الإبداع شكلا ومضمونا، وكان البعيجان قد اقترح على عبدالكريم الذهاب إلى القاهرة كي يسجل أغانيه هناك، ويحدد اتجاهه الذي سيسير عليه انطلاقا من أغنية «ليل السهارى». 
ظماي إنت
قدم عبدالقادر بالتعاون مع الأمير الشاعر بدر بن عبدالمحسن أعمالاً لافتة على مستوى الكلمة واللحن والتعبير الصوتي، مثل أغنية: «ضماي إنت» التي تقول كلماتها الاستهلالية: ومن يعشق ظماه غيري جروحي إنت 
ومن يكره دواه غيري 
اسقني لو ما ارتويت 
داوني لو ما شكيت 
ماهقيت اني اعطش 
في حياتي، لغيرك انت» 
كما تعاون مجدداً مع الأمير بدر بن عبدالمحسن فظهرت أغنية: «يطري عليه الوله» التي تقول كلماتها:  
«يطري عليه الوله واطري على باله 
يا مرحبا لي ضوى خلّي على بابي 
كل ما شكا من عنى همه وغرباله 
اقول لعل به جرح من اسبابي 
طال الحكي ما لقيت الوصل بوصاله». 
حالة فنية 
رحل عبدالكريم عبدالقادر ولكنه يظل خالداً في وعي ومكنون ومقصد المرددين لأغانيه سرّاً وجهراً، فهو ليس مجرد فنان ترك أثراً جميلاً وغاب، بل هو أكثر من ذلك وأكبر، لأنه صاغ روحا مشعّة للغناء، وحالة فنية مستدامة، وسط أجيال متعاقبة، مالت للذوق الرفيع، وانتصرت للمحبة في أبهى صورها، شكلّ عبدالكريم عبدالقادر ذاكرة المكان، فاستحوذ على الإعجاب كلّه، وصار له في كل خاطرة مجال، وفي كل قلب محلّ، وأفسح لكل عاطفة متنفّسا، ومنفذا، وبراحا شاسعا، يحتضن أنين الحيارى، ويمرّر صدى اللواعج، ويؤبّد نشيد الأيام.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©