الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
الترفيه

«الأفكار».. أسلحة الحرب الباردة

«الأفكار».. أسلحة الحرب الباردة
18 سبتمبر 2021 00:27

محمد وقيف

لم تكن الحرب الباردة صراعاً على القوة والنفوذ فحسب، بل كانت كذلك صراعاً حول الأفكار بمعناها الواسع، أي الأفكار الاقتصادية والسياسية والفنية والشخصية. وفي كتاب «العالم الحر»، يحكي الباحث والناقد الأميركي لويس ميناند قصة الثقافة الأميركية خلال السنوات المحورية الممتدة من نهاية الحرب العالمية الثانية إلى حرب فيتنام، مظهِراً تأثير القوى الاقتصادية والتكنولوجية والاجتماعية المتغيرة على إبداعات العقل الأميركي. 
يغطي الكتاب تبادل الآداب والفنون والأفكار بين الولايات المتحدة وأوروبا خلال العقود التي تلت الحرب العالمية الثانية، والحق أن ميناند ليس من الكتاب المدّاحين، فتقييمه لإخفاقات أميركا قد يكون قاسياً، لكن أطروحته الرئيسية تتمثل في أن الثقافة الأميركية صعدت إلى القمة خلال هذه الفترة لأسباب محددة، إذ يقول: «كانت الأفكار مهمة. وكان الرسم مهماً. وكانت الأفلام مهمة. وكان الشعر مهماً». وكان جزء من هذا نتيجةً للهجرة القسرية لمواهب فكرية عقب وصول موسولوني وهيتلر إلى السلطة. لكن اللافت هنا أن الأميركيين يميلون عموماً إلى تذكّر العلماء الذين فروا من أوروبا، مثل ألبرت إينشتاين، أكثر من الموسيقيين والمغنين والكتّاب والشعراء والفلاسفة والمنظّرين السياسيين. وفي الوقت الذي كانت فيه الهجرة إلى الولايات المتحدة قد توقّفت تقريباً، ظل الباب موارباً في وجه أولئك الذين لديهم سير ذاتية متفردة. ويكتب ميناند في هذا الصدد قائلا: «إن الدخول إلى الولايات المتحدة كان أشبه بالدخول إلى جامعة نخبوية شديدة الانتقائية». وسرعان ما ترك هؤلاء بصماتهم في مجالاتهم. 
ويستهل ميناند كتابه بعرض شامل للأفكار التي دعمت السياسة الخارجية الأميركية في مطلع الحرب الباردة. وتشمل شخصياته المركزية جورج كينان، مستشار وزارة الخارجية الذي حاجج بأن أفضل طريقة للرد على التوسع السوفييتي هي من خلال تدابير مضادة قوية، على أن تكون القوة العسكرية الخيار الأخير.. وهانز مورغانتو، وهو لاجئ يهودي ألماني شكّل كتابُه المؤثّر «السياسة بين الأمم» الغطاء الفكري لكينان وآخرين. ودافع مورغانتو عن نظريته المسماة «الواقعية»، والتي وصفها ميناند وصفاً صائبا باعتبارها نظرية في العلاقات الدولية يوجهها «الاعتبار البارد لمصلحة دولة، وليس لمجموعة من المبادئ القانونية أو الأخلاقية». لكن هذه النظرية ستخضع لاختبار قاس في كوريا وكوبا وفيتنام. 
مصطلح «الحرب الباردة» أتى من الاشتراكي جورج أورويل، الذي يُعد الكاتب المناهض للبلشفية الأكثر تأثيراً خلال زمنه. ومثلما يوضح ميناند، فإن أشهر عملين أدبيين لأورويل، وهما روايتي «مزرعة الحيوانات» و«1984»، كانا موجهين إلى زملائه اليساريين الذين فشلوا في الاعتراف بجرائم ستالين. وعلى نحو يمكن تفهمه، حظيت الروايتان بشعبية واسعة في الولايات المتحدة، حيث كانت المخاوف من الشمولية السوفييتية في أوجها.  وبينما كانت الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي يتنافسان على الهيمنة، كان نوع آخر من المنافسة يتكشف أيضاً، إذ لطالما هيمنت باريس على الغرب في مجالات الأدب والرقص والطعام والموضة، ولكن كان هناك بعض المعارضين لهذه الهيمنة، ومنهم الروائي الأميركي نورمان ميلر والكاتب الأميركي سول بيلو اللذان وجدا باريس مدينة باردة ومتعالية وبدون جاذبية.. مدينة «لم تستطع الاعتراف بأنها لم تعد مركزاً»، كما قال بيلو.  والواقع أن باريس لم تتراجع ثقافياً عقب الحرب العالمية الثانية، وإنما حُجبت وتوارت. وهكذا، باتت الرواية والشعر مزدهرين في الولايات المتحدة خلال هذه الفترة، يقودهما متمردون أميركيون مثل الروائي جاك كيرواك والكاتب والشاعر آلن غينسبرغ. كما بدأت الرقابة تتلاشى وتختفي. ثم سرعان ما أخذ الفن الحديث يصبح نوعاً أميركيا بحتاً، بزعامة فنانين تشكيليين من أمثال جاكسون بولاك وجاسبر جونس وروبرت روشنبرغ. وهنا يربط ميناند صعود هؤلاء الفنانين بثورة في مجالهم كان توقيتها مواتياً. وفي هذا الصدد، كتب ميناند يقول: «لقد كانوا يحتاجون إلى نقّاد.. يستطيعون فهم أعمالهم والكتابة عنها، وعارضين ليعرضونها، وأمناء متاحف ومقتنين ليشترونها». بعبارة أخرى، لقد كانوا يحتاجون إلى عالم فني يلبّي احتياجاتهم، وهو ما وفّرته أميركا لهم. 

حكومةٌ كريمة
في عام 1945، كان يُنظر إلى أميركا باعتبارها بلداً نائياً معزولا لا إشعاع ثقافي له، لكن تسيّره حكومةٌ كريمة وسخية، حكومة سالت دماء أبنائها من أجل تحرير أوروبا ولم تتوان عن إنفاق مليارات الدولارات لمساعدة القارة على الوقوف على قدميها من جديد. وبعد عقدين من الزمن، وقع العكس. إذ أصبحت الثقافة الأميركية تتميز بالثقة والتنوع، بينما لحق بسمعة الحكومة ضرر بالغ بسبب حرب فيتنام. وهو ما يدفع إلى التساؤل حول ما إن كان ميناند ينوي إفراد جزء ثان يغطي هذه الفترة من تاريخ أميركا الثقافي.

نخبة السلطة
يختتم ميناند كتابه بفترة الستينيات مع حرب فيتنام، حيث كانت الحركة المناهضة للحرب قد بدأت باحتجاجات متفرقة للطلبة ضد دور الجامعة المعاصرة باعتبارها خادمة لنخبة السلطة، وهي عبارة مستعارة من عالم الاجتماع «سي. رايت ميلز». وظلت الاحتجاجات على ذاك الحال مقتصرةً على حرم الجامعات عموماً، إلى أن لم يعد ممكناً تجاهل التصعيد المتواصل في فيتنام. وجاءت الحركة الفنية الطليعية متأخرةً إلى الصراع، لكنها سرعان ما جعلت حضورها محسوساً. إذ حلَّ النشاط السياسي محل اللامبالاة السياسية. ورأى البعض أن فيتنام تدمّر أكثر عقول أميركا إبداعاً. 

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©