الجمعة 10 مايو 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
الترفيه

د. شريف عرفة يكتب: دكتور الخشب

د. شريف عرفة يكتب: دكتور الخشب
15 مايو 2021 00:16

في يوم من أيام دراستي الجامعية، خرجت من الكلية منتشياً بعد إجرائي أول عملية جراحية في الفك.. كنت أشعر بنشوة الإنجاز وسعادة خوض تجربة مهنية تضاف لسجل إنجازاتي الفارغ وقتها.. كنت أتجول مع الأصدقاء، وتوقفنا عند مطعم فلافل لابتياع بعض الشطائر، إلا أن شيئاً لفت نظري هناك..
كان المطعم يعج بأناس متزاحمين أمام رجل واحد، يتسلم الطلبات ويعد الشطائر ويناولها لأصحابها في سلاسة عجيبة.. هناك من يريد شطيرتي فول وثلاثة فلافل ، منها واحدة من دون سلاطة وواحدة باذنجان، وذلك يريد الفول بطحينة زائدة، بينما ذاك الذي طلب البطاطس قد جاء أولاً.. لكن تلك المرأة معها طفل ولا بد من إنجاز طلبها سريعاً.. في هذه الأثناء يأتي شخص عاشر ليطلب خمسة أقراص فلافل وسلاطة طحينة وعلبة فول من دون ملح وشطة زائدة مع كيس مخللات..
كان صانع الشطائر يعزف هذه السيمفونية بكل بساطة، بينما يصنع مزيداً من الفلافل.. يمزح مع هذا ويحدث ذاك.. بينما يتولى ذهنه حساب العرض والطلب وإدارة المخزون وترتيب الأولويات، بالإضافة لإجراء الحسابات الأخلاقية.. إذ ناول المرأة الكيس قائلاً: بالهناء والشفاء يا حاجة!
كان المشهد بالنسبة لي خارقاً للطبيعة.. رجل بسيط يقوم بمهمة يعتبرها عادية، لكنها - بالنسبة لي - مستحيلة... وهنا اكتشفت الحقيقة.. يمكنني القيام بعملية جراحية في الفك، لكن قدراتي لا تسمح لي بالعمل بائع فلافل!
هناك مهارات أداء لا علاقة لها بالتحصيل الدراسي.. وهنيئاً لمن استطاع توظيفها بما يحقق له نجاحاً مهنياً في مجاله.. أعرف طبيب نساء شهير جداً، يمارس ذكاءه الاجتماعي بدرجة أثارت إعجابي.. هو طبيب بارع طبعاً، لكنه بالإضافة لذلك كان يجلس مع مرضاه لوقت طويل ويمزح معهم ويبدي اهتماماً شخصياً في الاستماع لهم وهم يتحدثون في مواضيع جانبية كثيرة لا علاقة لها بالكشف.. لدرجة أنني انتبهت إلى أنه يكتب ملاحظات في ملف المريض، تحوي معلومات تافهة تتعلق بالحوار الاجتماعي الذي دار بينهم، لاستكماله في المرة القادمة.. ماذا فعل طفلكما الآخر في اختبار الأسبوع الماضي؟ أما زلتِ تتابعين المسلسل الفلاني؟ هل قلت أن أفضل مطعم في المنطقة هو كذا؟ يجب أن أزوره.. يعرف مهنة واهتمامات كل من الزوجين، وما يحبان وما يكرهان، والاسم الذي يفكران في أن يطلقاه على طفلهما القادم.. بالطبع لا يحفظ كل هذه التفاصيل عن كل مرضاه، لكن تخيل شعورك حين تذهب للطبيب، فتجده يذكر اسمك وتفاصيل حياتك ويستكمل حواركما كصديق حميم يهتم بأمرك.. ألن يورثك هذا شعوراً بالثقة والأمان ويكون أول طبيب يخطر ببالك؟
أقارن هذا بطبيب آخر، أعرف يقيناً أنه أكثر خبرة ومهارة، لكنه متجهم... لا يعرف اسمك ولا يريد معرفته وينظر لساعته بعد انتهاء الكشف.. هل تود الذهاب إليه بانتظام؟
التفوق المهني ليس كافياً للنجاح المهني.. لا ينجح المرء فقط بسبب إجادة تقنيات مهنته.. بل أيضاً باستغلال سماته الشخصية لمزاولة عمله بطريقة تجعله متميزاً عن غيره.
في طفولتي كنت أعرف نجاراً ماهراً.. كان يستمتع بالتفاصيل وإتقان العمل وممارسته بأعلى جودة ممكنة.. لكنه كان أيضاً خفيف الظل يضفي جواً لطيفاً في المكان أثناء عمله.. بينما كنت أتابعه وهو يعمل، التفت لي، وقال: هل تعرف الدكتور أحمد زويل؟ أنا مثله بالضبط.. وتابع عمله قائلاً: أنا بروفيسور في الخشب.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©