الثلاثاء 23 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
الترفيه

«النوبان» إذا استهواك.. لا مجال للعودة

«النوبان» إذا استهواك.. لا مجال للعودة
6 فبراير 2021 00:05

نوف الموسى (دبي)

كانت أمسية خفيفة، فيها الشتاء بدأ يقرع أبواب البرودة الطفيفة، في المجلس الخارجي لمنزل طاهر إسماعيل في منطقة المزهر بمدينة دبي، وقبل الجلوس على الأريكة الممتدة، بحثت عن صوت أو حالة تدلني على معنى أن تزور عازفاً لآلة «الطنبورة» في الإمارات، رأيت وبصدفة عابرة، «المسواك» وهو ما يطلق على الأداء المستخدمة في التمرير على خيوط «الطنبورة»، لإصدار النغمة، ما يشبه «الريشة» المستخدمة في آلة العود، إلا أنه شكلاً؛ ليس بالريشة البتة، قال عنها العازف طاهر إسماعيل: «ليس المسواك ذاك الذي نطهر به الفم، بل إنه مسواك من قرن البقر، سمي بذلك لأنه يسوك خيوط الآلة، ويصدر منها الألحان».
جلسنا معاً بشكل متقابل، وكأننا نستعد لذهاب وجيه من الأسئلة، تلك التي تشبه حركة المؤدين في فرق «النوبان»، يقول عنهم طاهر، يجب ألا يقل عددهم عن 40 شخصاً، حركة الصفوف في النوبان، أكثر مقارنة بفن آخر من مثل «العيالة»، لذلك فإن تبادل الأدوار مهم، بين مستريح ومؤدٍ، كل شيء فعلياًً تطور في الحوار.

  • طاهر إسماعيل
    طاهر إسماعيل

شيء وجداني
عندما سألت طاهر إسماعيل عن «الطنبورة» لماذا هذه الآلة، ومتى شعرت بأنها استحوذت عليك، لدرجة أنك تركت عزفك لآلة العود، من أجلها، وكمثل أي عازف في أي مكان في العالم، كان كلاسيكياً أو عصرياً أو حتى شعبياً، جاء رد إسماعيل وبهدوء هذه المرة: «إذا استهواك «النوبان» فلا مجال للعودة، هو شيء وجداني، ليس له تفسير، متى ما استشعرت صوته في أي مكان ستذهب إليه راكضاً، وستصبح لروحك أجنحة، وقد يحاول الناس إيقافك مرات عديدة، ولكنك ستصل في النهاية».

من العصر للمغرب
في السابق، وكما يشرح لنا العازف طاهر إسماعيل، كانت الأوقات التي يقدم فيها فن «النوبان»، تختلف قليلاً عن الآن، تبدأ الفرقة من فترة العصر إلى المغرب، وبعدها ترتاح ويؤدي أُناسها صلاة المغرب، وبعدها صلاة العشاء، ويتناولون العشاء، ويرجعون للعزف مجدداً.
بالمقابل، فإنه في الوقت الحالي ينطلقون من العصر إلى فترة المغرب، وبعد صلاة المغرب يعزفون مرة أخرى، حتى أذان العشاء، ويقيمون الصلاة، ويتناولون وجبة العشاء، وينطلق العزف حتى وقت متأخر من الليل، ما رجح فكرة ارتفاع سعر الفرقة، بسبب المجهود المستمر طوال اليوم في الحفلات والأعراس المجتمعية. في الحقيقة، كنت أحتاج وقتها كمستمعة لراو عاصر فترة ثرية من المعزوفات على آلة الطنبورة، أن يتوقف حوارنا تماماً، ونستمع لبعض تلك الألحان التي تُبنى عبر الأشعار، يقول فيها طاهر إسماعيل: «نبينا محمد ما شفناه، سمعناه به وصدقناه»، «يا ابن آدم يا مسكين، مردك للحصى والطين»، «يا سعدك ويا لبيك، أنا الخادم بين يديك»، «صلوا يا عباد الله، صلوا واذكروا الله».

الذائقة السمعية
يشد العازف طاهر إسماعيل، الخيوط بيديه وقلبه، هكذا يخيل للناظر للوهلة الأولى إلى كل تلك التفاصيل الدقيقة في الآلة، وقبل أن يشرح آلية صنعها، كونه أيضاً يعمل على صناعتها لمن يطلب، يحدثنا عن أول 3 فرق في بر دبي، وهي ما كان يعرف بـ «عدة السركال» و«عدة سعيدة بنت فيروز» التابعة لجمعية سطوة، والتي انتقلت «عدتها» بعد وفاتها إلى خميسه بلال، وصولاً إلى «عدة سالم مانع».
حرص العازف طاهر إسماعيل على بيان تأثير الذائقة السمعية للجمهور في انتقائهم لعازف معين، بقوله: «هناك مستمعون يحبون أشخاصاً بعينهم في العزف، والفرق يبرز في الألحان واختيارهم أنواع الغناء، تأثرت جداً عندما كنت أستمع لـ بخيت بن عصيان، وجوهر أحمد وسالم مانع، على مستوى الصوت لديهم والأداء، وأيضاً هناك كان عازف من البحرين يدعى راشد عبدالله سلمان، ويطلقون عليه (النعيمي)، هم فعلياً من جعلوني أستمر في العزف».
«عيون الطنبورة»
وأضاف العازف طاهر إسماعيل، أنه ضمن مكونات آلة الطنبورة هي «الغزالة» الكرسي المخصص لتثبيت الأوتار، من أجل أن تصدر الصوت، بكفاءة، حيث يخرج الصوت من الفتحتين الموجودتين في «المنجب»، ويسمونها «عيون الطنبورة»، والمدهش في نهاية جلستنا مع العازف طاهر إسماعيل، لما أحضر لنا القطعة التي يرتديها المؤدون في منطقة الخصر، ويهتزون يمنة ويسرة لتصدر صوتاً نغمياً بالتوازي مع الإيقاعات الثلاثة في فن الطنبور، تتوسطهم الطنبورة، ويطلقون عليها الـ «المنجور»، والتي يصنعها بنفسه من أضافر الماعز، والسبب أنها أقوى وأكثر قدرة على التحمل أثناء استخدام «المنجور» إلى جانب الإيقاعات، تتم فيه خياطة الأضافر بعد مرحلة من التنظيف بالماء الحار، وانتظار تجفيفها، بقماش مقوى يستخدم في السفن. وأضاف العازف طاهر إسماعيل أنه في السابق كانت الخياطة أكثر عشوائية، أما اليوم فهو عمل بنفسه على ترتيب الصف، التي يتم فيها خياطة الأضافر على القماش، ضمن صفوف متوازية، يصل فيها عدد الأضافر تقريباً لنحو 38 ظفراً في كل صف.

في نهاية جلسة اللقاء بالعازف طاهر إسماعيل، أطلعنا أن مهمة استمرارية هذا الفن في الإمارات، تحتاج كمثل كل الفنون إلى آلية دعم متخصصة بين الهيئات المعنية والجمعيات، الإشكالية الأبرز هو فقد الاتصال بين العازفين والمشتغلين في الفنون الشعبية، والجمعيات أنفسهم، فالأخير يحتاج إلى متابعة وإعادة تقييم، لكيفية إثراء تجربة الفنون الشعبية مجدداً، بحيث يضمن تعليمها للأجيال الحالية والقادمة، وذكر طاهر إسماعيل، كيف أنه يستثمر مواقع التواصل الاجتماعي، من بينها «الانستغرام»، ويقوم بتقديم وصلات عزف على آلة الطنبورة، باستخدام تقنية البث الحي، موضحاً أن هناك تفاعلاً كبيراً، ومشاهدات، ودعماً دائماً من المستخدمين، يدعوني أن أستمر في الظهور والعزف، ما يقدم مؤشراً مهماً أن هناك مهتمين ومتذوقين ومحبي آلة الطنبورة.

هروب للهواية
في عمر 16 سنة، كان العازف إسماعيل طاهر يسكن مع أهله وقتها في بر دبي، يسرد كيف أن خلافاً وقع بين جدته، ونساء في «عدة» ما، و«العدة» كان يطلق قديماً على صاحب الفرقة، كما يذكر أن أصحاب فرق «النوبان» في الإمارات، الكثير منهم كان يدار من قبل النساء، وطلبت جدته وقتها من والده، أن يمنع طاهر إسماعيل من الذهاب إلى واحدة من الأعراس التي ستحي فيها نفس الفرقة فن «النوبان»، قائلاً: «كان لدينا مثل الدكان الصغير، غرفة يضع فيها والدي أسطوانات موسيقية والجرامافون، طلب يومها مني أن أذهب لأحضر غرضاً من الغرفة نفسها، ولحقني يومها، وأغلق علي الباب، وفهمت أنهم يريدون أن يمنعوني، وبينما قضيت وقتاً قليلاً، وإذا بالصوت النوبان يسري وأسمعه، ولم أتحمل، فقمت بخلع حواجز موضوعة على نافذة صغيرة موجودة في الغرفة، وهربت مسرعاً من خلالها، إلى أن وصلت هناك وشاركت الفرقة، تفهم بعدها والدي، وتركني أذهب وأعزف معهم، مؤمناً أنه لا يستطيع إيقافي ع ما استهواني فعلاًً».

انطلاقة حقيقية
في الستينيات، عزف طاهر إسماعيل في عرس الشيخ مكتوم بن راشد آل مكتوم، «طيب الله ثراه»، وشعر وقتها أنها انطلاقته الحقيقية، لعوالم العزف على آلة «الطنبورة»، وبينما هو يطلعنا على أجواء العزف وقتها، أخبرنا أن عازف الطنبورة، كان يُطلق عليه في الماضي «سنجك»، في هذه اللحظة تأمل طاهر إسماعيل، قطع الزينة التي صنعها بنفسه، كجزء من تفاصيل آلته المحببة، وقال: «هي آلة خشبية وترية، تتشكل من 3 قطع، القطعة الأولى تدعى «منجب»، وتستورد من الهند، وهي التي كان يستخدمها الغواصون قديماً للأكل، والجلد المستخدم حول «المنجب»، يكون مصنوعاً من جلد الجمال، بالنسبة لي أُفضل جلد البقر، أقوى في التحمل، بينما الجمال رقيق وفيه (شحم) بنسبة أكبر، وكل «منجب» له قياسه وحجمه، أما القطعة الثانية فهي «الدقل»، وصولاً إلى القطعة المتعلقة بالأوتار».

سعيد الحداد: فن حاضر في ذاكرة الإمارات
الباحث الدكتور سعيد مبارك الحداد، مدير معهد الشارقة للتراث ـ فرع كلباء، أكد أن الفنون الشعبية في العموم، تواجه تحدياً على مستوى المصادر المرجعية، إلى جانب حاجتها الماسة إلى اعتماد البحث العلمي والقراءات الفكرية والجمالية والفلسفية القادرة على إضفاء معانٍ جديدة لأشكال تأثير الفنون الشعبية في المكونات الوجدانية، متحدثاً عن فن النوبان، بأنه من اسمه يرجع إلى أصل موقعه في السودان.

  • سعيد الحداد
    سعيد الحداد

وأضاف: النوبان حاضر في ذاكرة الإمارات وسائر دول الخليج العربي، ما يقودنا إلى التواصل الحضاري بين مختلف الدول العربية منذ القدم، مشيراً إلى أنه مهما اختلف الإيقاع، وطبيعة التفاعل مع فن معين، فإن هناك اتصالاً ولو بجزئية بسيطة بين مختلف الأقطار العربية، لأن الحس واحد، ولا يمكن فصله.
وبين الحداد مدى ارتباط الحضارة العربية بالجمال، الذي شُكل من خلال التناغم في الطبيعة الأم، بمكوناتها وتضاريسها المختلفة، والذي لا يمكن أن يشعر فيها الإنسان بلحظة السأم، والموسيقا كذلك، مبنية على ذاك الانسجام والتعدد، الذي هو متجذر في مكونات نسيجنا في الإمارات.  حول آلة الطنبورة يقول الباحث الدكتور سعيد الحداد: «أغلب الفنون الشعبية في الإمارات، فيها آلة موسيقية تعتبر أساس العمل في اللوحة الفنية، فالطنبورة هنا تشكل أساساً لفن النوبان، مثل حضور المزمار في فن الليوا، وطبل «الراس» في فن العيالة».
وقدم الحداد، قراءة عامة لفن النوبان، وصفها بالأولية، قائلاً: فنوننا الشعبية مرتبطة بالحركة، التي فيها خطوط مستقيمة: الخط المستقيم المكسور في نفسه، ويقصد بالمكسور هنا، هو الميلان الذي يبديه الفريق، بينما الدوائر التي تنشأ تكون عادةً ممتلئة، ما يدل أن مبدعي تلك الفنون كان لديهم فكر بالمجال المسرحي وفضاءاته، والذي يمكن اعتباره يبرز قيمة «الحدس» لدى مؤدي الفنون الشعبية قديماً. ويضيف: «هم يتأملون بعضهم البعض، لكنهم لا يقلدون البتة، لذلك هم لا يتشابهون، حتى في حركة النزول والصعود، تختلف تفاصيلهم.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©