عدد اليوم
تأخذنا الأصوات الطربية الأصيلة إلى عوالم من التخيل والقراءات المؤرقة لذاكرتنا الحيّة وما يعتمل فيها من مشاعر وأحاسيس وهزّات إنسانية نعرف مداها، ونشتاق بعض تفاصيلها في أعماق نفوسنا، ومن حولنا، نروح معها نحو مناطق شاسعة من الألم والأمل، من الحب والعتب، من التفاؤل والتشاؤم، من الشوق والصّبر، من الحنين والأرق، نصير كمن يقرأ سيرته الذاتية المخبوءة بين ضلوع الأيام والذكريات والحالات الخاصة والعامة التي يمر بها، أغنيات يأخذها معه في ذاكرته المتموجة المتماهية مع حالات كثيراً ما حاول الهرب منها ليعود إليها.
أغنياتنا القديمة ذاكرتنا المُتحرّكة، أعني ذاكرة جيل بعينه يختلف تماماً عن أجيال لحقت به وجاءت بعده، تلك الأغنيات تُشبه العطور المعتّقة التي سكنت قوارير الانتظار أعواماً عديدة لتكون مميزة وضاربة في عمق الانتشاء والاحتشاد بكل ما هو جميل وآسر، وغير مرئي من المشاعر المتواشجة المتمازجة مع لحظة ما عبرت خط الذكرى عند أول رشّة عطر، فأحدثت جلبة الفرح، وأيقظت سكين الوجع المنزوية في خاصرة الوقت.
تختلف طريقة تلقي الأغنية منّا وبيننا ومعنا، كاختلاف تلقي الأجيال لصوت أم كلثوم أو عبدالحليم أو فريد ووردة، ومحمد عبده في البدايات، وعلي بن روغه، وجابر جاسم، وحسين جاسم والدوخي وعبدالكريم عبد القادر والمرطة، ومحمد حسن، وعتاب وابتسام لطفي وخالد الشيخ، وغيرهم ممن تسللوا إلى ذائقتنا بوعي أو غير وعيٍ منّا، عبر تلك العوالم التي رسمها شعراء لا يتكررون لتنساب خلجات قلوبهم، ومشاعرهم رقراقة كجدول ماء عبر حناجر من ذهب ومشاعر من صدق، وأوتار من عود هندي معتّق.
الأغنيات القديمة ذاكرتنا المُتّقدة، تلك التي ترحل معنا عبر الطرق التي نقطعها كأنها ذاكرة عابرة للوقت وللأيام والأعوام، أو لحظة ساكنة في الروح نشتاقها كلما خاتلتنا عبر قصيدة أونغمٍ أوصوت نحبّه، الأغنيات صداقاتنا الوارفة، علاقاتنا التي تساقطت أوراقها وذبُلت مع الأيام وتقلّبات النفس البشرية، وانتقاءات الأصدقاء وحالاتهم وتحولاتهم النفسية المعقّدة التي ذهبت بهم وبنا نحو وجع اللحظة المُستعادة في أغنية تعيدهم إلينا بما اكتنزت به أرواحنا منهم من حنين ودهشة.
كم أغنية قديمة ألهبت مشاعرنا، وألهمت جوارحنا، وحرّكت سواكننا، كم شاعر تعايشنا معه، وعشناه لأنه ترجمنا دون أن يعلم بأنه ينتقل معنا وعبر ذاكرتنا نحمل مشاعره مع مراحلنا العمرية المختلفة هو لا يعلم بأنه رفيق لحظاتنا، وصديق أعمارنا، باغتنا هكذا دون استئذان، مرّ بنا مع عديد من الملحنين والمطربين الذين لا يتكررون، ولا يُستنسخون.
هي تفاصيلنا إذن، حياتنا، ذاكرتنا، شغفنا، أشياؤنا، حاجاتنا التي ذهبت، وبقيت مجرد ظلٍ عابرٍ في أغنية.
--------------------
شيخة محمد الجابري
Qasaed21@gmail.com
