الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
الترفيه

حمد الكتبي.. شاعر الترانيم

حمد الكتبي.. شاعر الترانيم
5 ديسمبر 2020 02:07

إبراهيم الملا

«فيه سحر يشبه السحر الحلال
فيه طيبٍ من عيونه ينقرا
ما ترك للكبر في قلبه مجال
وأجمل الإحساس في دمّه سرى
من كثر ماحطّ في قلبي وشال
صرت اسال الربع شلّي بي جرى»

تتوافد الصيغ الوصفية إلى قصائد الشاعر الراحل «حمد بن سهيل الكتبي»، وكأنها صيغ تنهمر من فضاء مزدحم بالكلمات، ومن سماء ملبّدة بالمعاني، حيث يعمل شاعرنا على انتقائها وفرزها وتحييدها عن كل شائبة أو إفاضة أو لبس، ومن هنا تأتي الإجراءات التقنية في قصائد الكتبي، لتكون هي المصفاة اللغوية أو المشكاة التعبيرية التي يتخلّص فيها من الشرح والاستطراد والاسترسال، فيختار الجوهر النقيّ للقول المكثّف، والذاهب مباشرة للبّ المعنى، وأصل الفكرة، ومنبع الإلهام.
يصف الكتبي الطرف المعنيّ بالبوح في القصيدة أعلاه، بأنه المالك لسحر يكمن تأويله وتفسيره في مسلكه الظاهر، وفي سمته الطاهر، فهو سحر حلال، يسهل استشفافه وقراءة ملامحه دون تكلّف وتدقيق ومبالغة في التمحيص، فهو سحر نابع من الطيبة وجمال الخلق ورقّة الأطباع، وهي عناصر مريحة وإيجابية يمكن رصدها أيضاً في نظرة العين، وغلبة التواضع، وطغيان الجمال العفوي الساري في مجرى الدم، والمترجم في بنية الجسد، أما صيغة الاستفهام التي يضعها الشاعر قصداً في نهاية البيت الثالث من القصيدة «صرت أسأل ربعي شلّي بي جرى؟»، فهي صيغة تعمل على التأكيد لا النفي، وهذا التأكيد مصدره المقطع الأول من البيت الشعري: «من كثر ما حطّ في قلبي وشال»، فالسؤال هنا حامل لإجابته الضمنية، وإلّا صار سؤالاً عبثياً وغير ذي معنى، وهذا المجال الحسّي الموزّع بين التفنيد والإثبات ينقله لنا «الكتبي» في الجزء الثاني من القصيدة، حيث يقول:
«كل ما سال واحدن منهم سؤال
اكتشف محّد من ربعي درى
أثر اللي شفته خيالٍ في خيال
حلم زار العين في لحظة كرى
قمت اقول في خاطري هذا محال
كيف وانت ما ترى تقدر ترى»

هنا يأخذنا الشاعر وفي نقلة ذكية إلى مساحته الشعرية الخاصة والمتجهة من وضوح «اليقين» إلى شبهة «الظنّ»، لأن إلحاح السؤال أخذه إلى منطقة أخرى تملؤها الغرابة وتحيط بها الشكوك، فالسؤال التوكيدي في الجزء الأول من القصيدة، صار سؤالاً استنكارياً في جزئها الثاني، وهذا التحوّل الفجائي في موضوع القصيدة هو ما يميّز شعر حمد بن سهيل الكتبي، ويجعله شعراً مفعماً بالحيوية والديناميكية والسرد التشويقي، رغم كثافة هذا السرد وميله الواضح للاختصار والتشذيب.
إن هيمنة بنية «الحكاية» على قصائد الكتبي، جعلت سيرته الإبداعية متصلة بالجانب العاطفي في الوعي الجمعي، وبالتالي ألهمت هذه القصائد الكثير من الملحنين والمطربين لتبنّي خطّها السردي بمساراته السهلة الممتنعة، المصحوبة بالنقلات الدرامية والإيقاعات الحسيّة والأوصاف البليغة، والترانيم المعبّرة عن تحولات الحياة وانقسامها التراجيدي بين فراق ولقاء، وبهجة وحزن، وصحبة ووداع.
ولد الشاعر حميد بن سهيل الكتبي في مدينة العين عام 1972م، ورحل عن عمر يناهز الثامنة والثلاثين عندما كان يتلقى العلاج في مدينة الضباب «لندن» عام 2010م، رحل الكتبي، وهو في أوج عطائه الشعري وألقه الإبداعي، تاركاً إرثاً غنائياً مبهراً ما زال يصدح في الأسماع ويطرق أبواب القلوب، مستعيداً معه ذاكرة الفترة الذهبية للأغنية الإماراتية والخليجية، التي طالما ساهت كلمات «حمد بن سهيل» في تألقها وشيوعها وازدهارها، كانت التسعينيات وبدايات الألفية الثانية هي المرحلة الانتقالية للأغنية في المنطقة، وكانت هي أيضاً شرارة التحوّل في طبيعة القصائد النبطية التي اختارت «اللغة البيضاء» القابلة للاستيعاب والتواصل وسط تنوع اللهجات وخصوصيتها في دول الخليج العربي، وكان حمد بن سهيل الكتبي أحد فرسان هذا التحوّل الملحوظ في بنية القصيدة الشعبية - العاطفية تحديداً - وفي تقريب مفهومها إلى شريحة أوسع من المتلقّين في زمن جديد وأفق مختلف.
استعان مطربون كثر من شباب والمخضرمين بكلمات حمد بن سهيل لأنها تمتلك بصمة غزلية مميزة، وتتوفر على جماليات خاصة بها، فهي تتمتّع برونق إيقاعي فريد، وبمفردات شعرية تقيم جسوراً ذهنية يسهل فيها العبور من الذات إلى الآخر، ضمن مناخ تفاعلي يجذب المستمعين لقصائده المغنّاة، ويجعلهم مأخوذين ومبهورين بدقّة المعاني، وفيض الإحساس، وروعة الوصف، ومن المطربين الذين تعاونوا مع الكتبي واستلهموا مناخاته الشعرية العذبة والموحية: ميحد حمد، وكاظم الساهر، وعبدالمجيد عبدالله، راشد الماجد، وحسين الجسمي، وأصيل أبوبكر، والفنانة: أحلام، وخالد محمد، والوسمي، وغيرهم، كما تولى تلحين كلماته العديد من الملحنين المبدعين أمثال: خالد ناصر، وفايز السعيد، وموسى محمد، وفهد الناصر، وطارق المقبل، وإبراهيم السويدي، وغيرهم.
في قصيدة «يا سنين عمري» التي أداها المطرب حسين الجسمي، نعاين القدرة اللافتة للشاعر حمد بن سهيل الكتبي في البوح عن أعماق النفس الإنسانية وما يعتمل فيها من لوعة وأحزان وجروح ومكابدات، مستعيناً بالحوارات التخيلية مع الزمن بجريانه وانعطافاته، ليبثّ شكواه ويصرّح عن آلامه النابعة من عنف التغيّرات، وقسوة التبدلات، خصوصاً عندما يكشف مرور الوقت عن جوهر الناس المقربين، وعن تحوّل طباع المحبين، والتعامل المباشر مع الغربة الروحية المترتّبة على هذه الصدمات العاطفية وعلى هذه الخيبات الذاتية، يقول الكتبي في هذه القصيدة الفائضة بمتواليات الجرح وبمراجعات شخصية تجاه الماضي والحاضر:
«يا سنين عمري كفايه حزن يا سنيني
خلاص راح الذي يستاهل احزانك
لمّي جروحك وكِفّي الدمع يا عيني
رِدّي لزهرة حياتي باقي ألوانك
وش ذكّرك بالهوى إلّي كان ناسيني
والحزن ليه هو بدا في يوم عنوانك
يا سنين كفّي عن الذكرى وخلّيني
ما عدت انا اقوى على حزنك وأشجانك»

أما في كلمات أغنية «رعبوب» التي أدّاها المطرب راشد الماجد، فنجد أن الأسلوب الشعري لدى حمد الكتبي يتخفّف من ثقل المعاني المتوارية لصالح الوصف الظاهري والعفوي المتضامن مع خفّة الإيقاع اللحني وتسارعه، هذا التسارع الشبيه بالوقع الصاخب لدقّات القلب عند مشاهدة المحبوب، والظفر بلقائه، وتلمّس الحيرة المندلعة من جوف الشاعر أملاً في ترويض ارتباكه، وتخطّي انبهاره، للوصول إلى حالة التأمل المنشودة في هكذا مواقف، وفي هكذا لحظات، عندما يتجلّى البيان، وتشعّ البلاغة، ويصبح البوح طيّعاً وخاضعاً للملكة الشعرية، تقول كلمات القصيدة:
«لي صاحب خذني بزينه
عن كل مزيون ورعبوب
روحي غدت نظره رهينه
والقلب من نظراته يذوب
غضٍّ يعيش أوّل سنينه
ومن الدلع له طبْع واسلوب
الشمس في طلعه جبينه
والليل وسط العين مسكوب
والخد ينفح يا سمينه
مثل الشفق في حزّة غروب»

رمز أدبي
يعد حمد بن سهيل الكتبي أحد أهم الرموز الأدبية في الساحة الثقافية والأدبية الإماراتية، وامتلك حضوراً إعلامياً وشعرياً مميزاً على الصعيد المحلي والخليجي والعربي، وكان من المساهمين الكبار في تجديد ملامح القصيدة الغنائية في المكان، وأثّرت قصائده في ذائقة ووجدان المتلقي في الخليج والعالم العربي، فهو شاعر مرهف، امتلك موهبة فذة، مكنته من إبداع وكتابة العديد من القصائد التي تم نشرها بالصحف والمطبوعات، إضافة إلى القصائد المغنّاة الكثيرة التي حرص مطربو الخليج على التغني بها لما تمتلكه من مفردات معبرّة ومميزة، وكان غياب الكتبي مؤثراً بشدة في تواصل الخط التصاعدي للقصائد الغنائية ذات الجرس اللفظي الجامع بين البساطة والعمق، وبين الوصف الانطباعي واستثمار طاقة اللغة الشعرية، تلك الطاقة المتأجّجة التي وضعت الكتبي في المنطقة المثالية بين ضفتي الغموض والوضوح، والإبانة والمداراة، والتلميح والتصريح، كما مزج الكتبي في قصائده بين مكونات التراث والأصالة، وبين الملامح الشعرية الحديثة، وهذا المزج التوافقي - إذا صحّ الوصف - هو الذي أعطى قصائده بعداً جديداً في التعبير، ومساحة أوسع في الانتشار، مقارنة بمعاصريه من الشعراء الشباب، إضافة لما تميّز به شعره من تدفق في التعابير وتوظيف ناجح لموضوع القصيدة ولمبتغاها ومقصدها، فصار نسيج وحده في مجال القصيدة الغنائية، وصاحب رؤية متفرّدة في هذا السياق.

 

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©