الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
الترفيه

عيسى بن قطامي.. «صائغ القوافي»

عيسى بن قطامي.. «صائغ القوافي»
7 نوفمبر 2020 00:06

إبراهيم الملا

«ونّتي ونّيتها من حرّ يوفي / ما يطفّي حرّها وِبْلِ النِّفافي
بات دمع العين همّالٍ ذروفي / يوم خالي البال في مثواه غافي
آه من قلب الخطا يا كثر خوفي / لي هدا جنح الدجى زاد ارتجافي
أترك بشفّ الهوى كلّ الشُّفوفي / فاهمٍ وأصوغ ذربات القوافي»

يستنبط الشاعر الكبير عيسى بن قطامي عباراته ومفرداته الشعرية من مخزون لفظي يخصّه وحده، ويشكّل مدارات وملامح أسلوبه الأثير في صياغة القصيدة الغزلية ذات النسق المتفرّد، والتكوين الجمالي اللصيق بشخصية الشاعر نفسه، المتّصف بجمال المزايا، ورقّة الخصال، ورهافة الحسّ، ولباقة المسلك، وفي القصيدة أعلاه، يؤكد شاعرنا فهمه واستيعابه للطاقة التعبيرية للشعر، وكيف أن القصيدة تتحول بين يديه إلى «منحوتة بلاغية» ولا يورد هذا القول جزافاً أو ادّعاءً، بل يضع الدليل أمامنا، ناصعاً وبهيّاً ومشعّاً في ثنايا قصيدته هذه، وفي الكثير من قصائده الغزلية الأخرى، والتي تفنّن  في صياغتها بالأوزان العذبة والقوافي المزخرفة: «فاهمٍ وأصوغ ذربات القوافي»، كما أن استخدامه لحرف الفاء المكرر في شطري البيت الشعري للقصيدة أعلاه، مع تحريك الحرف بالواو في الشطر الأول، وبالألف بالشطر الثاني، فيه مدّ مرغوب، ولحن مطلوب لهذه النوعية من القصائد الذاتية والمطرّزة بالوصف العجيب، والمعنى الغريب، وبدقّة التوليف، والمواربة في التعريف.

وحيد والديه
ولد الشاعر عيسى بن سعيد بن قطامي المنصوري في منطقة «الطف» الواقعة بين أبوظبي والعين، في العام 1935م تقريباً، وكانت ولادته بالتحديد في «بدع حارب»، وهو وحيد والديه، وتوفى شاعرنا - رحمه الله - في العام 2014 بمنطقة «ختم» القريبة من مكان ولادته، وتروي سيرته الحياتية أنه ترعرع في الختم، والعشوش، والنخرة، والسمحة، الشهيرة بطابعها الزراعي والمحاذية للصحراء، وكان لهذه المناطق دور ملحوظ في تكوين الوعي الشعري لابن قطامي، حيث قرض الشعر في وقت مبكّر وهو ما زال في الرابعة عشرة من عمره، وكان لأسفاره وتنقلّاته دور مهم آخر في تأسيس شخصيته، وصقل موهبته، وتطوير فهمه وقدرته على التعامل مع الظروف الصعبة، واختزان الخبرة المعينة له عند التواصل مع الناس، مائلاً إلى الحكمة في تصرفاته، ومُتَوِّجاً علاقاته بدماثة الخلق، وطيب المعشر، وحسن الحديث، والابتسامة الغالبة على محيّاه، فبجانب تمكّنه من قول الشعر، كان ابن قطامي مشهوراً أيضاً بمداواة الأهالي وتخليصهم من أسقامهم النفسية والجسدية، مستعيناً بالقرآن والرُقية والعلاجات الشعبية في مداواة جروحهم الظاهرة والخفيّة، فهو سليل أسرة ممتدة من «المطاوعة» الذين ورث عنهم أساليب التطبيب والعلاج بالأدعية، وبطرق الشفاء القائمة على القراءات الدينية، أو ما يمكن أن نسميه بالعلاج الروحي المساهم في تحقيق العلاج الجسدي، من خلال بث الطمأنينة الداخلية، والتزوّد بالأمل والتفاؤل، والاتّكال على قدرة الله، وتصريفه لشؤون الخلق في كل الأحوال.

مَلَكَة ساطعة
يعبّر الشاعر عن الأثر اللاسع للأنين، الذي أصاب الجوف أو النفس بحرارة لا يطفئها وابل المطر، وهذا الانتقال الرشيق من الحالة الداخلية إلى الحالة الخارجية، يشير إلى موهبة دالّة، ومَلَكَةٍ ساطعة تميّز بها بن قطامي، وكان لهذا التميّز صدى لافت، وحضور آسر في ساحة الشعر النبطي بالإمارات، وفي الساحة الغنائية الشعبية، التي طالما اقترنت باسم عيسى بن قطامي، ونقلت قصائده إلى فضاء سمعي رائق وجذّاب وملهم أيضاً للكثير من الشعراء الشباب والمطربين والملحنين الواعدين والمخضرمين أيضاً، مثل: علي بن روغة، وميحد حمد، وفتى شمل، ومحمد حسن، وخليفة عبدالله، ومحمد راشد، ومحمد الهاملي، وغيرهم، حيث هيمنت قصائد ابن قطامي على الساحة الغنائية في الإمارات منذ السبعينيات وحتى نهاية التسعينيات من القرن الماضي.
في البيت الثاني من القصيدة يخبرنا الشاعر في سياق التسلسل الدرامي لأحوال العاشق وتحولاته، أن عذابات المحبّ المجسّدة في سهره الطويل، ودموعه الغزيرة، تتناقض تماماً مع أحوال المحايدين والبعيدين عن هكذا عشق حارق، ووله عارم، فهم خالون البال، ومستغرقون في هدأتهم، لا يشغلهم التفكير، ولا تقلقهم الهواجس، في الوقت الذي يقضي فيه العاشق لياليه مهموماً، تحيطه الشكوك والوساوس من كل حدٍّ وصوب، وتزيده سهام البرد رعشةً وارتجافاً، ولواعج القلب حيرةً وبهتاناً، ورغم كل المشاعر المتطاحنة هنا، فإن ابن قطامي يرى فيها الجذر الحقيقي للهوى، والمنبع الواقعي للحب، بكل تقلّباته، وانعطافاته، ولذلك فإن لذّة التعبير عن هذه المشاعر، هي التي ألهبت حماسه لكتابة القصيدة، والتحكّم بمساراتها، وتصميم إيقاعها وأوزانها وقوافيها، على النحو الذي تمليه العاطفة الحارة والمشبوبة، والتعابير الجامحة والوادعة في آن واحد.

«ديوان ابن قطامي»
تم تثبيت عدد مهم من قصائد شاعرنا في كتاب بعنوان: «ديوان ابن قطامي»، جمعه وحقّقه الباحث الدكتور راشد أحمد المزروعي، وصدر في عام 2016 من نادي تراث الإمارات، ويذكر المزروعي في مقدمة الديوان أن «عيسى ابن قطامي» يُعرف عنه أنه شاعرٌ ومُطوّع في نفس الوقت، وهو من الشعراء الشعبيين المميزين الذين كان يقدرهم المغفور له الشيخ زايد رحمه الله، مضيفاً أن ابن قطامي يُعدّ من ألمع شعراء الغزل في الإمارات، حيث انضم إلى كوكبة قوية من شعراء النبط المشهورين من خلال مجلس شعراء القبائل في تلفزيون أبوظبي، واصفاً شعره بالسهل الممتنع، مع الجزالة في اللفظ والمعنى، ويغلب على قصائده الغزلية بحور الردح والونّة، مع وجود البحور الأخرى مثل المقالة والمنظومة، وأن أساليبه الشعرية تتوزّع على نواحٍ كثيرة، أبرزها الغزل والمدح والوطنيات والحكم والشكاوى.

محطّات حافلة
تكمن في سيرة شاعرنا الإبداعية محطّات حافلة، وذكريات ثريّة، تعزّز هذه السيرة وتقرنها بالكثير من المواقف المشهودة، والقصائد الحيّة والباقية في الوعي الجمعي، ثقافياً وفنيّاً وإنسانياً، حيث كان عيسى بن قطامي من أوائل المشاركين في البرنامج الشهير «مجلس شعراء القبائل» ومن الروّاد المؤسسين له بتلفزيون أبوظبي منذ انطلاقة البرنامج في العام 1974م، كما ساهم ابن قطامي في ضخّ ساحة الشعر النبطي بالعديد من القصائد المميزة في مجالات وحقول مختلفة، فبجانب شعره الغزلي الطاغي، تميّز ابن قطامي بشعر الشكاوى والردود والمساجلات، وكان بارعاً في قصائد النصح والحكمة والاجتماعيات، مستثمراً علومه الدينية، في توقير العادات الأصيلة والسمحة، بعيداً عن الغلوّ والتشدّد والانغلاق، ومن قصائد ابن قطامي المعروفة في مجال المشاكاة، تلك التي ردّ فيها على صاحبه الشاعر «محمد القصيلي»، ويقول فيها:
«آه يا من ونّ من عوقٍ عنيف /‏ من صوابه ساهرٍ شاف الممات
من سبايب لي جعل حاله ضعيف /‏ مالي الذرعان لي سيد البنات
نابي الأحباب لي خصره نحيف /‏ واليدايل فوق متنه ضافيات
أريش العينين له خشمٍ رهيف /‏ والثنايا مثل ما حبّ النبات»
إن البداية المكثّفة في هذه القصيدة الطويلة، تؤكّد قدرة ابن قطامي على توظيف الرصيد اللغوي لديه، وتسخير إمكاناته في الوصف والتصوير، من أجل التدرّج في مسار القصيدة، انطلاقاً من الاستهلال ووصولاً إلى الختام، دون أن يشعر المستمع للقصيدة بوجود زوائد وإضافات تشي بالتكلّف والحشو والإفاضة، ذلك أن أبيات ابن قطامي تتابع وتجري مثل الماء المتدفق بلطف ويسر وسلاسة من منبع البداية إلى مصبّ النهاية، كما أن أبياته العذبة في قصائده الطويلة، تبدو مثل كتلة واحدة صافية ومتخلّصة من شوائب الوصف، وهوامش الإيضاح، ومرادفات التبيين، وهذه الكتلة المتماسكة والطيّعة في وقت واحد، هي من مزايا شعر ابن قطامي لأنها تربط الذات بالطبيعة، وتشبك المتواري بالظاهر، خالقاً المساحة الجمالية الواصلة بينهما ضمن علاقة حيوية ونابضة، تجذب المتلقي، وتصنع التشويق، وتشحذ الخيال.

«عيد ومجد»
تميز الشاعر عيسى بن قطامي بروح النكتة والدعابة اللطيفة، حيث كان محباً للناس، ودوداً بشوشاً، يحب الجميع، وصدر له ديوان صغير عام 2001، غير أنه كان ديواناً صغيراً، وعليه تم إصدار هذا الديوان الذي به قصائد الشاعر المغناة والمنشورة في الصحف والمجلات وتسجيلاته أيضاً.
قُسّم الديوان إلى أربعة أقسام، وهي قصائد الوطنيات والمدح «67 قصيدة»، وقصائد الاجتماعيات «68 قصيدة»، وقصائد الشكاوى والمجاريات «52 قصيدة»، وأخيراً قصائد الغزل «97 قصيدة» بإجمالي «287 قصيدة».

نار الشوق
من القصائد الشهيرة لابن قطامي والتي ذاع صيتها بعد أن أدّاها الفنان القدير ميحد حمد، تلك التي يقول فيها:

بتّ نار الشوق تلعب بي 
ساهرٍ والناس هيعيِّه
بان ما بي لو بها غبّي 
بيّنت لعيون ما بيّه
إفضحتني واكشفت نَبّي 
 والله يعلم مقصد النيّه
من سبايب ذاك لمحبّي 
حطّ لي في القلب ماريّه
ما افهم الشرتا يلي هبّي 
‏ من جنوب ولو شماليّه
بالخلايا بجوفي إِتخِبّي
 والحنايا تحتهن عيّه
السفن ما تمشي بخبّي 
‏ وللهوى دقّات اعليه
ربكم يا سيدي وربّي 
‏ لا تخلي الروح مشقيّه
ارحم اللي يودك وغبّي
‏ عن جميع الناس موليّه

وتقترب هذه القصيدة بقافيتها وانشغالاتها الوصفية من مناخات الشاعر الكبير وساحر المفردة الشعبية «راشد الخضر»، وخصوصاً في القصيدة التي يقول فيها الخضر:

مت غرقه ما بتلّ ينبي 
عِلّتي كِلّن إتعايابها
عل اليبس غرّقني إمحبّي
وغرقه فوق اليبس ما أعجبها
في بحرهم مركبي مشبّي
‏ والسواحل ما يجاربها
أبعد من الشمس لو قربي
 ‏ تقصر إيدي لو بمدّ إبها

وهنا نموذج من قصائد عيسى بن قطامي المتآلفة مع الفضاءات الشعرية والأنماط الأسلوبية لشعر راشد الخضر، يقول ابن قطامي:

كنت لول مالك امنافس 
 واليوم عنك العالم امسجّه
ما تواكب موية العافس
 وابتلتبك موية اللجّه
مركبك لحّم على اليابس‏
 وكسّرت مركبك لملجّه
قمت في اقوالك اتخانس 
‏عن دروب الحق مِعْوَجّه
شفت نفسك في الشعر دارس
‏ وكم غيرك طايحن فجّه
في حدوده واعي وحارس
 ‏وانته كيف الصافي اترجّه؟

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©