الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
الترفيه

البيئة الساحلية.. مشهدية تعج بالحياة

البيئة الساحلية.. مشهدية تعج بالحياة
23 أكتوبر 2020 01:04

نسرين درزي (أبوظبي) 

تعج ذاكرة أبناء الإمارات بالروايات عن مفردات العيش قديماً في البيئة الساحلية، التي عدا عن مشقتها المتمثلة في الصيد والغوص بحثاً عن اللؤلؤ والإبحار سعياً للتجارة، تزخر بمحطات يومية تظهر إصرار أهلها على تحدي الصعاب، وإيجاد منافذ كريمة للرزق في ظروف قاسية فرضتها طبيعة الحياة حتى بداية الستينيات من القرن الماضي.
العيش على مقربة من الشواطئ البحرية لطالما شكل للمجتمع المحلي متعة خالصة، حيث أتقن الأولون تدبير أمورهم، معتمدين على إرث عريق دفعهم إلى التعاون فيما بينهم، بدءاً بأفراد الأسرة نفسها، والمشهدية على طول خط الساحل الإماراتي، لم تقتصر على شباك الصيد وأدوات الغوص وسفن الإبحار التي تخصص بها الرجال، وإنما كملها الدور الأساسي الذي لعبته النسوة في إتقانهن للحرف الشعبية والصناعات اليدوية، بقصد التجارة وتوفير القوت، وبالعودة إلى تلك الأزمنة، لابد من استذكار ما شكلته رمال البحر من ملاذ للأطفال وملاعب على سعة أحلامهم، زرعوها ضحكات وأنشطة وأهازيج لا يزال صداها يتردد حتى اليوم.

عن ارتباط أهل السواحل والمناطق البحرية في دولة الإمارات بالصيد، تحدثت فاطمة المغني، الباحثة الاجتماعية والخبيرة في التراث الشعبي، مشيرة إلى كونه فخراً وجاهاً للرجال، لاسيما البحارة والغواصين الذين كانوا يصارعون المخاطر ويواجهون المجهول، بحثاً عن اللآلئ والدرر في قاع الخليج. 
وذكرت أن الغوص في مجتمع أهل البحر كان من أهم المهن التي تربطهم بالعالم الخارجي، بقصد التجارة وبيعها لـ«الطواش» لتوفير لقمة العيش الكريمة، وكانت مواسم الغوص الكبرى تستغرق نحو 4 أشهر يقضيها النوخذة والغواص و«السيب» و«التباب» في مياه البحر الدافئة، بعيداً عن وطنهم وأهلهم.
وروت المغني أن الأطفال في البيئة البحرية كانوا ينامون ويصحون على أخبار الصيد، والرزق ومتاعبه، وكانت الأمهات والجدات يروين لهم يومياً الحكايات الشعبية، ومن مفرداتها الأسماك والقواقع، للدلالة على التفاعل اليومي مع خصوصية المكان وثرواته الطبيعية. وأكثرها تداولاً حكاية «البديحة» أو «السميجة»، والتي تتضمن الكثير من الأحداث عن الأحياء البحرية، حسب ما تناقلته الأجيال، مع إضافات يبدع في تركيبها الراوي أو الراوية، على اختلاف ما سمعاه في صغرهما من كبار السن، تضاف إليها «المهاواة» على أنواعها، وهي أشعار فيها من حياة البحر ونغمات أمواجه، تصوغها الأم من نسج أفكارها، وتتفنن في أدائها بصوت حنون، لتساعد أطفالها على الاسترخاء والنوم. 

مشاهد ساحلية
ومن تفاصيل المشاهد الساحلية قديماً، ذكرت فاطمة المغني أن النساء كن يغسلن ملابس الأطفال على كسارة «الموية»، بهدف تنظيفها وتعقيمها، بحيث يذهبن إلى أقرب نقطة لتكسر الأمواج على الشاطئ، ولطالما اعتبرت مياه البحر المالحة المعقم الأول لسكان المناطق الساحلية، في حال الجروح أو الحروق، وكذلك عند ختان الطفل، وكان الأهل يصطحبون صغارهم في اليوم السابع بعد الختان، بهدف الاستحمام في البحر للتسريع في عملية ختم الجرح وتطهيره.

  • مراكب خشبية قديمة
    مراكب خشبية قديمة

ومن الروايات التي استعرضتها المغني كيف كانت أسر السواحل على امتداد الدولة تعيش على الأسماك الطازجة، وأكثرها انتشاراً «الهامور، البياح، الصال، الكنعد، والقباب»، حيث كان يستخرجها الصياد يومياً من رحلاته البحرية، ويأخذ نصيبه منها ويوزع بعضها للجيران والأقارب، ولا ينسى تمليح الباقي منها، مما يزيد على الحاجة اليومية، لتناولها في وقت لاحق، عند اضطراب الأحوال الجوية أو هجرة الأسماك بسبب ارتفاع الحرارة في فصل الصيف. 
ويُعد «المالح» حرفة ساحلية يتقنها الصياد الماهر، وتعتبر من الأكلات الشعبية المحببة لغالبية سكان الدولة في مختلف البيئات، وتعتمد على تجفيف فائض الأسماك الطازجة مثل «اليودر، خيل البحر، الكنعد، والقباب».

«طلوع سهيل»
بحديثه عن السواحل البحرية في الإمارات، استعاد النوخذة حثبور الرميثي أجمل سنوات عمره، التي قضاها ممارساً لمهنة الصيد الأحب إلى قلبه، وقال: إن طبيعة الحياة الساحلية معروفة بتحلي أهلها بالصبر، والذي استمدوه من مواجهة البحر وظروفه القاسية، في سبيل استخراج الأسماك لتناولها كقوت يومي للأسرة وبيعها لتوفير الرزق. وأضاف: «حتى خمسينيات القرن الماضي وبداية الستينيات، لم تكن الرواتب متوفرة، ولم يكن من السهل الحصول على البيزات، وكان الصيد أفضل وسيلة لسكان البحر، الذين يعتمدون بالدرجة الأولى على شباكهم. وكان سعيد الحظ من يحظى بسمك القرش، بحيث يعمل على تيبيسه وبيعه». 
وأوضح الرميثي أن الحياة على طول سواحل الإمارات كانت كلها مبنية على العلاقة بالبحر وخيراته، وكانت مرتبطة بشكل وثيق بنجم سهيل الذي يظهر مع نهاية شهر أغسطس، مبشراً بعودة الصيد، وكان السكان يطلقون على هذه الفترة من السنة، «موسم الصيد»، أو «طلوع سهيل»، حيث تبدأ الحرارة بالانخفاض تدريجياً، وتعود الأسماك إلى الظهور، ويصبح خروج الصيادين إلى البحر أقل مشقة عما هو عليه في أشهر «القيظ» الحارة، إذ إن الصيف عموماً كان فصل الغوص، حيث الحركة مناسبة عند الأعماق لاستخراج اللؤلؤ والمحار.

  • «المريحانة» من أقدم الألعاب الشعبية في البيئة الساحلية
    «المريحانة» من أقدم الألعاب الشعبية في البيئة الساحلية

وروى الرميثي أن الصيادين المهرة كانوا يتبعون حيلاً خاصة بهم لتحقيق المنافسة، للحصول على رزقهم من البحر، وعن نفسه، كان يرمي شباكه صباحاً، ويعود للتفرغ إلى الصيد بعد أذان العشاء، بخلاف جيرانه الذين كانوا يمضون يومهم بالكامل في البحر ولا يجمعون ربع ما يجمع من أسماك. وأضاف: «كانوا يسألونني أين ذهبت وكيف تمكنت من تحقيق صيد وفير؟.. كنت أضحك ولا أجيب»، لافتاً إلى أن الصياد المحترف يعرف من خلال بوصلته وخبرته كيف يختار المكان الأوفر حظاً والوقت الأنسب لتحقيق غنائمه من البحر. 
وذكر الرميثي أن حياة النسوة قديماً لم تكن سهلة، لاسيما في البيئة الساحلية، حيث لم تكن المياه العذبة متوافرة بكثرة من الطوي، مشيراً إلى أن كل إمارة كانت تبحث عن المكان الأقرب إليها لجلب مخزونها الشهري أو السنوي، وكان أهل أبوظبي يجلبون مياه الشرب والطعام من جزيرة دلما المعروفة بعذوبتها، حيث تتفق مجموعة من الأسر المجاورة لبعضها على إحضارها بالقوارب الخشب، وكانت قدرة التحميل للقارب الواحد 80 دراما، تتقاسمه 4 أسر، وإذا كانت الكمية أكبر، يستعان على نقلها بوساطة السفينة. 

موطن الحرف
وتطرقت د. بدرية الشامسي، الخبيرة في التراث، بالحديث عن الحرف الشعبية في البيئة البحرية، والتي انتشرت على نطاق واسع، حتى اقترنت بكل بيت، ومنها «القلافة» في صناعة المراكب الخشب، وهي من أكثر المهن التي كانت منتشرة في ذلك الزمن لضرورة استخدامها عند السفر في رحلات الغوص، وكذلك صناعة «القراقير» أو «مصيدة السمك»، والتي ارتبطت بالصيد منذ القدم، وكانت تصنع من سعف النخيل، وتظهر مواهب الأولين في التعامل مع الحياة وتدبير أمورهم من ثروات الطبيعة. 

  • غواصون يفلقون المحار
    غواصون يفلقون المحار

وذكرت الشامسي أن النسوة كن يتعبن في مساعدة أزواجهن لتوفير قوت الأسرة، ويحملن عبئاً كبيراً خلال أشهر الغوص مع سفر الرجال لأشهر طويلة، إذ إنه مع نفاد المال بين أيديهن، اضطررن في مراحل كثيرة للعب دور الأم والأب، وكانت المرأة تلجأ إلى أعمال التجارة، كأن تشتري الأسماك بالجملة، ومن ثم تبيعها، كما تتفنن في تجميع الحطب وحرقه، ومن ثم بيعه على شكل «صخام» أو فحم، ومن هنا نشأت حرف كثيرة أبدعت فيها النساء، اللاتي تحولن إلى حرفيات يتقن صناعات «التلي» وسعف النخيل مثل «السفافة، السرود، المهفة، والمجبة أو المغطى»، وسواها من أدوات البيع ومصادر الرزق الإضافي. 
وأشارت الشامسي إلى أن الميزة التي يتمتع بها أهل البيئة البحرية، تتمثل في انفتاحهم على الآخرين، انسجاماً مع طبيعة اختلاطهم بالتجار من المناطق والدول المجاورة، لافتة إلى أن الأدباء والشعراء في المجتمع المحلي، كانت لهم الكثير من الروايات والنصوص عن البحر، حتى أنهم نقلوها إلى الأجيال من خلال الألعاب الشعبية التي اقتبست نسيجاً منها، إذ إن معظم القصص التي سمعها الأطفال كانت مبنية على حياة البحر والغوص والصيد والسباحة، والأمر نفسه ينطبق على الأهازيج والأغاني التقليدية. 

متعة على الرمال
واعتبر النوخذة علي محمد آل علي، أن البحر كان قديماً بالنسبة لسكان سواحل الإمارات، كما الحدائق في عصرنا، وعدا عن كونه المصدر الوحيد للرزق، إلا أنه شكل للكبار والصغار الملاذ الأوفر للترفيه والاستمتاع برماله الدافئة، حيث كان الجميع يمشون حفاة، بمجرد انقضاء أشهر «القيظ»، وذكر أن الأطفال كانوا ينتظرون فترات العصر، حتى يخرجوا إلى الشاطئ، عندما تكون المياه في حالة «ثبرة»؛ أي عند الجزر، وهم بذلك يرمون سفنهم الخشبية الصغيرة في «الغالة» التي يحفرونها على شكل بركة، ويجمعون بداخلها المياه القادمة إليهم، وهنا يبدأون سباقات «القشطي»، حيث يتنافسون حيناً، وينزلون إلى السباحة سوياً حيناً آخر. وأشار آل علي، إلى أنه على الرغم من متاعب الصيد والغوص التي كانت ملقاة على عاتق الرجال منذ زمن بعيد، فإنه لا يمكن إنكار الدور الكبير الذي لعبته الأم والأخت والبنت في البيئة البحرية، فهي كانت السند في أوقات كثيرة، لاسيما في القدرة على تدبر أمور البيت والمساعدة في تجهيز كل ما تحتاج إليه الأسرة، سواء في حضور الزوج، أو خلال سفره إلى الغوص.

أهازيج البحارة
ومن روايات الأولين أنه مع وصول الغواصين إلى بر الأمان من رحلاتهم الطويلة، وبعد انتهاء مراسيم الاستقبال تبدأ عملية «اليداف»؛ أي رفع السفن من البحر ووضعها على «السيف» بغرض صيانتها وتجديدها للموسم التالي، وفي هذه الأثناء تعلو أهازيج البحارة، يبدأها أحد الغواصين بأعلى صوته، قائلاً: «هيه يا الله.. هيه يا الله».. ليرد عليه رفاقه: «هيليه.. هيليه». وهناك الكثير من الأهازيج التي يترنم بها البحارة خلال رحلاتهم لاستخراج اللؤلؤ أو لصيد الأسماك، تعرف بـ«النَّهْمة» وتعني الطرب البحري، ويسمى المطرب البحري النَّهَّام وينقسم «النَّهَّامة» إلى 3 أنواع: «اليامال، الخطفة، والحدادي»، ولكل منها ظروفها وأوقاتها، ومنها ما تردده النساء مع أطفالهن عند استقبال البحارة بعد عودتهم من رحلات الصيد: «حيَّا ومرحيب بالهادف ومن هو حضـر.. رجال مثل النِّمارة مـا تهـاب الخطـر».

«المسطاع» و«التيلة» و«المريحان»
ألعاب الشاطئ كانت تسلية الأطفال الوحيدة في البيئة البحرية، وتعد من أهم ركائز الموروث الشعبي لديهم، حيث يمضون معظم أوقاتهم، إما في الماء وإما على الرمال، وكانت منافسات الكرة وما يطلق عليه «المسطاع»، متعتهم الأكبر، وكذلك «التيلة»، ولا تزال أنواع كثيرة منها حاضرة حتى اليوم بين صغار السن من الجنسين. 
وتتطلب لعبة «المسطاع» الحماسية لياقة بدنية عالية، وتستخدم فيها عصا وقطعة خشب صغيرة، وهي غالباً تمارس على رمال البحر، ويتقنها أهل السواحل، حيث يتبادل الأولاد الأدوار فيما بينهم، بقصد تحقيق الرقم القياسي، ويعمل كل لاعب على ضرب القطعة الخشبية بالعصا بأقصى قوته إلى مكان بعيد، يتعذر على الفريق الآخر أن يلتقطها، ثم يتم قياس المسافة التي حققها. 
أما «المريحان» فتعرف بالفصحى بلعبة «المراجيح»، وهي عبارة عن حبال متينة تربط في جذوع الأشجار المتقاربة عند الشواطئ، وتوضع في وسطها وسادة من حشو القماش ليسهل الجلوس والتمرجح عليها، و«المريحان» كانت تجمع أطفال الفريج، وتتخللها أناشيد مستوحاة من التراث الإماراتي الشعبي.

  • مراكب الغوص عن اللؤلؤ قديماً
    مراكب الغوص عن اللؤلؤ قديماً

متاعب السفر
مهنة المتاعب والسفر عبر البحار والممرات المائية، التصقت قديماً بأهل الساحل في الإمارات، باعتبارها أشهر وسيلة للوصول إلى الهند والصين و«ممباسا»، ودول أفريقيا واليمن وسواها من الدول، عبر الخليج العربي وخليج عمان، مروراً بمضيق هرمز و«غبة سلامة» والبحر الأحمر والمحيطات التي تعج بالمخاطر.

«الأبوام»
«الأبوام» هو اسم السفن الخشبية التي كانت تنقل البضائع من خلف البحار إلى سواحل الإمارات، بما فيها الأخشاب والتوابل والمواد الغذائية، ومع مواجهة مفاجآت المحيطات في ذلك الزمن، كان الكثير منها يتعرض للغرق.

«الناعمة» و«الدانة»
اشتهر أهل السواحل في مجتمع الإمارات برحلات الغوص، بحثاً عن اللؤلؤ الذي اتخذ منذ القدم عدة مسميات حسب لونه ونوعه، منها: «الناعمة» وهي من اللآلئ الصغيرة، و«السنقباسي» المائلة إلى الزرقة، و«الحصباة»، وتعد من أرقى الأنواع، أما «الدانة» الأكثر شهرة، فتتميز بلونها الأبيض، و«الجيوَن» تُعد من أجمل اللآلئ وأغلاها عند «الطواويش»؛ أي تجار اللؤلؤ، نظراً لصفائها، ومن الأنواع المعروفة: «القولوه»، و«اليَكَّة»، و«البدلة»، و«الخاكة».

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©