الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
الترفيه

عبيد بن معضد.. شاعر الونّة وعاشق التراث

عبيد بن معضد.. شاعر الونّة وعاشق التراث
8 أغسطس 2020 00:40

إبراهيم الملا

«الناس تمشي في هواها
خافي ولا باحت به اسدود
ردّيت نفسي عن هواها
لو القلب عاذلني يبا ردود
ما ردّ نفسي عن قفاها
ردّ القفا يا ناس منقود
ذبّيت في عالي عِلاها
وطويت غزْلي ما له وْرود».

تُشعرك قصائد الشاعر الكبير عبيد بن معضد لخريباني النعيمي (1929 - 2014) بوجود تلك الألفة والحميمية الصادرة من نفس نقيّة، وسريرة صافية، وهي قصائد مشبعة بالحكمة والتأمل، والقراءة الواسعة للحياة من منظور شامل ينتقل من العمومي إلى التفصيلي، ومن المشخّص إلى المجرّد، مشتبكاً بقضايا الناس وهمومهم ومشاغلهم، وطارحاً حلولاً ومنافذ للخروج من الصعاب والمشاكل الفردية والجماعية، في قالب يعكس بريق الفطرة الإنسانية السويّة التي تمتّع بها شاعرنا عبيد بن معضد، ذلك أن ما ينتجه من شعر ورؤية وتفكّر، إنما هي عناصر ذات ارتباط وثيق بالمكان وتحولاته، وبالطبيعة البشرية وتبدّلاتها، وهو شعر صادق ينبثق من بوح الخاطر، وترجمان الذات، وخطاب التعاضد، وسموّ الأخلاق.

يكمل شاعرنا القصيدة قائلاً:

«طيّ الرشا من فوق ماها
مجفي ولا لي فيه مقصود
لا تبيّن حالاتي أقصاها
عند الذي ما فيهم اسدود
مديون وأتابع هواها
واحاسب النقصان والزود
دنياك لو طوّل مداها
لا بد ما ترميك بالكود».

تعبّر هذه القصيدة، ذات البعد التأملي العميق، عن الخبرة الحياتية المتنوعة في أنماطها وصورها والتي عاشها عبيد بن معضد، وخَبِرها جيداً، واستشفّ منها معاني وعبراً ودروساً، باتت الآن ملء فواده، وفيض ذهنه، وكمال بصيرته، ما جعله مؤتمناً على نقلها إلى الآخرين، وإلى من هم أصغر منه عمراً وتجربة، ناصحاً إياهم بالقناعة والعدل في الأحكام ورد المطالب لأهلها دون نقص ولا زيادة، ذلك أن الدنيا مهما طال البقاء فيها، فإنها «لا بد ما ترميك بالكود»؛ أي أنها سوف تنقطع وتنتهي، ولن يكون هناك مجال للتصحيح والمراجعة، وتوضّح هذه الأبيات تمكّن شاعرنا من الربط بين الدالّ والمدلول، مستعيناً بعناصر البيئة ومكونات الطبيعة المحيطة بنا، كي يبتكر هذا المجال الحسّي الذي يقارن فيه بين الظاهر والباطن، وبين الماديّ والمعنوي، حتى يسهل فهم مقاصد الشاعر، واستيعاب مراميه، وتتبّع غاياته.
ولد الشاعر عبيد بن معضد بمنطقة «مزيد» في حاضرة العين العام 1929، وهو من قبيلة النعيم، فخذ «البوخريبان»، وتروي سيرته الحياتية أنه قرض الشعر وهو في الخامسة عشرة من عمره، وكأنه استقى هذه الموهبة من المناخ الشعري الخصب المزدحم حوله، والذي ساهم، دون شك، في ظهور كبار شعراء النبط بمدينة العين والمناطق التابعة لها، وأنه اكتسب خبرته في الشعر من خلال محاولاته المتعددة، والتي كان يعرضها على الشعراء الأكبر منه سناً، ويتلقى منهم النصح والإرشاد، فتعلّم القافية وأوزان الشعر، وأصبح ملماً بأنواع وأغراض الشعر، وتمكّن من إبداع العديد من القصائد الجميلة، وتطرّق في قصائده إلى أغراض الشعر الشعبي، متنقلّاً بين الغزل العفيف والمديح والمساجلات، وتأثر في شبابه بقصائد أيقونة الشعر النبطي في الإمارات «بن ظاهر»، واستقى من هذه الشخصية الشعرية الكبيرة والمُلهمة منابع الحكمة، ومناهل الأمثال، وقراءة مجريات الدنيا، وحال الإنسان، وآثار الدهر، وتغيّر المكان، وتعاقب الأزمان.

  • الوالد المؤسس يستمع إلى قصيدة من الشاعر عبيد بن معضد
    الوالد المؤسس يستمع إلى قصيدة من الشاعر عبيد بن معضد

استقر شاعرنا في منطقة «الوقن» بالعين، بعد سيرة حافلة بالمغامرة والأسفار والترحال في حواضر وقرى ومدن الإمارات وعمان والسعودية، محتضناً في دواخله خزيناً هائلاً من المعارف والمشاهد والقصص والتجارب، التي أهلّته، لاحقاً، كي يكون من أهم الرواة الشعبيين في دولة الإمارات، وأحد ألمع الكنوز البشرية للتراث غير المادي في الدولة، وقد كرمته إدارة التراث بدائرة الثقافة والإعلام بالشارقة في إحدى دورات مهرجان: «يوم الراوي»، نظراً للمكانة العالية التي حازها، والشهرة الطاغية التي كسبها في مجال الروي وسرد الحكايات، والإلمام بفنون وآداب «السنَع» والمظاهر الأصيلة للعادات والتقاليد، وتمكّنه من الإلقاء الشعري المميز، وعلوّ كعبه في فنون «الونة» و«التغرودة»، وفي القصائد الاجتماعية، وشعر الغزل، والمساجلات، والردود، والمشاكاة، التي أبحر في أغراضها المتعدّدة، وأبدع فيها، وأسبغ عليها الجمال والحكمة والبلاغة والبيان.
وتذكر سيرة شاعرنا أيضاً، أنه انتقل مع أسرته في صباه إلى عدة أماكن مثل الحلّة وحفيت والسنينة وهيلي والقوع، حاله حال بقية أبناء البادية المتنقلين من منطقة إلى أخرى في ذلك الوقت، طلباً للكلأ والمرعى، وفي لقاء له مع الباحث التراثي الراحل عمّار السنجري، نُشر في كتاب: «شعراء ورواة من الإمارات»، ذكر ابن معضد أنه عرف في طفولته أياماً صعبة، حيث كانت الموارد شحيحة، والأمان قليلاً، مشيراً إلى أن الطريق من العين إلى أبوظبي كانت تستغرق نحو 14 يوماً في الذهاب والإياب، حيث يحمل المسافرون على ظهور الإبل والحمير حصيلة الثمار والتمور من بساتين النخيل في حفيت الغربي، وهيلي، والجيمي، والقطّارة، ليتم بيعها هناك، حسب اتفاقات مسبقة، وأن المؤن كانت تستجلب من المدن والحواضر البعيدة، وتستغرق هي الأخرى وقتاً كثيراً، والماء يستخرج من الآبار ولا بد له من جهد، وقد يكون المكان بعيداً، ناهيك عن رعي الإبل وزراعة النخيل وغيره، كذلك كان المسافرون في المسافات الطويلة، يواجهون خطر قطاع الطرق الذين يغيرون عليهم وينهبون ما عندهم، لذلك كان الناس لا يسافرون إلا في مجموعات، ويحملون معهم الأسلحة للدفاع عن أنفسهم.
صدر لشاعرنا ديوان بعنوان: «ديوان ابن معضد» حققه وراجعه الباحث الدكتور راشد أحمد المزروعي، واشتمل الديوان على معظم قصائده المتوفّرة، والتي أهّلته لحيازة المقام الرفيع بين أقرانه ومجايليه من الشعراء الذين شكّلوا جيلاً ذهبياً ساطعاً، وقدّموا حركة شعرية فريدة من نوعها، عزّزتها البرامج الإذاعية والتلفزيونية التي شارك بها ابن معضد، في إطار من التنافس المحمود، والحيوية الإبداعية القائمة على ترقّب جديد الشعراء في تلك البرامج المرئية والمسموعة، والتي كانت تلقى رواجاً كبيراً وتفاعلاً ملحوظاً من المتلقين، وكانت هذه البرامج تتسيّد المجالس الشعبية حين عرضها أسبوعياً، وتكتسب أصداء، وتثير نقاشاً بعد انتهائها.
ومن تجاربه في القصيدة المثلوثة، يقول ابن معضد في هذه الأبيات الغزلية العذبة:

هب النسيم وياني --- وعّاني --- يوم العباد إرقود
قبل الفجر ما باني --- وافاني ---- عن وافين العهود
عن زينين المعاني --- اضناني --- راعي سمت ونقود
يسوى نظير اعياني --- جدّاني --- يعلم بي المعبود
ريم سكن لوطاني --- خلّاني --- متعلّل وميهود

وتفصح هذه القصيدة عن الطابع الإيقاعي المتحرك بنسق بتوازن في الأبيات المثلوثة تحديداً، لأنها أبيات تقوم على الفصل بين الشطر الأول والشطر الثاني من البيت، من خلال مفردة واحدة، بقافية منتمية للشطر الأول، وهي مهمة تنطوي على تحدّ للذات، وتعكس القوة التعبيرية للشاعر وقدرته على التنويع وتجاوز الصعوبة، المتمثلة في هذه النوعية من القصائد التي بقدر ما تبدو سلسلة في بنيتها الإيقاعية، بقدر ما تحتاج لخبرة ومِراس وحنكة في توليفها، وتحقيق شروطها، وامتلاك أدواتها.

ثنائي شعري
لشاعرنا عبيد بن معضد قصيدة طويلة معروفة، تحاور فيها مع الشاعر الكبير محمد الدرمكي، يقول في مطلع أبياتها:
باب المِثَل يا شيخ مغلوق /‏ وانته فهيم وعارفنّه
علّيت شرعك والهوى دوق /‏ والخطّ بايدك كاتبنّه
ياني المِثَل صافي ومنطوق /‏ رحّبت باللي راسلنّه
وأنا عليكم إليِه حقوق /‏ وحقّي ظهر من دون منّه
فردّ عليه محمد الدرمكي بهذا المطلع من القصيدة التي يقول فيها:
أهلا عدد ما هبّت شروق /‏ بالجيل اللي قايلنّه
وأهلا عدد ما لاحت بروق /‏ واعداد حرفٍ كاتبنّه
وما غنّت «الورقا» من الشوق /‏ وناح الحمام براس فنهّ
بك يا الخوي لي تطلب حقوق /‏ وحقّك أنا هب ناسينّه.
ويخبرنا سعود الدرمكي، ابن الشاعر الكبير محمد الدرمكي، أن ابن معضد كان صديقاً مقرّباً من والده،  شكّلا معاً ثنائياً شعرياً لا يتكرر، من حيث قوة المعاني، وجمالية الطرح، ومتعة الردود، والشكاوى الجامعة بينهما، كما أن المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان - طيب الله ثراه - كان معجباً بابن معضد، وكان يصفه بشاعر التراث، وشاعر الونّة.

  • ديوان ابن معضد
    ديوان ابن معضد

سالم عبيد: والدي حفظ 1500 قصيدة 
وفي لقاء مع ابن الشاعر سالم عبيد بن معضد، أوضح  أن والده - رحمه الله - كان شاعراً بالفطرة، وأن عدم إلمامه بالقراءة والكتابة، لم يمنعه من حفظ 1500 قصيدة له ولغيره، وحتى القصائد التي عدّها في بدايات شبابه، كان يستعيدها ويرويها، وكأنه أعّدها بالأمس، وقال سالم بن معضد: إن والده كان يسجّل عدداً من قصائده بصوته، وبعضها تم تدوينها من قبل آخرين، وأغلبها تم جمعه في ديوان حققه وأشرف عليه الباحث الدكتور راشد المزروعي، مضيفاً أن الكثير من قصائد والده لم تدوّن، حيث يصل عدد المفقود منها إلى 500 قصيدة، وهي - كما أشار - بحاجة للعثور عليها وإعادة اكتشافها، وحكى لنا سالم عن موقف لا يغادر ذاكرته، جرى بين والده وبين المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان - طيّب الله ثراه - والذي كان متواجداً في لندن لإجراء فحوص طبية، وطلب من الشعراء إعداد قصيدة تحاكي الواقع المحلي وقضاياه خلال يوم واحد، وعندما تأخر ردّ الشعراء خاطب الشيخ زايد، الشيخ طحنون بن محمد آل نهيان ممثل الحاكم في المنطقة الشرقية، كي يأتي بالشاعر عبيد بن معضد إلى لندن في طائرة خاصة، ويعدّ عليه القصيدة المطلوبة، وهناك ارتجل ابن معضد قصيدة حول أثر المخدرات على الشباب، فنالت إعجاب الشيخ زايد، وقال: هذه هي القصيدة التي كنت أتمنّى سماعها، وأمر بتكريمه.
واستحضر سالم بن معضد عدداً من أبيات هذه القصيدة، وهي:

دار المثل في خاطري واستديره /‏‏ وأبني على ساس الحصا من حجرها
عندي نصيحة والنصيحة بريره /‏‏ ورجل ٍيعزّ النفس علاّ قدرها
والإنسان ما يمشي على دين غيره /‏‏ حرام في القرآن والله ذكرها
أخصّ لي يتبع دروبٍ عثيرة /‏‏ ويخلّي حياته مظلم به سفرها

وأوضح سالم أن والده كان من المؤسسين الأوائل للبرامج الشعرية والتراثية في الإذاعة والتلفزيون، وأنه كان مثالاً ناصعاً للطيبة والمحبة والكرم، واشتهر بوفادة الضيوف من كل مكان، والترحيب بهم في مجلسه، سواءً كان هؤلاء الضيوف غرباء، أو من أهل المنطقة، وكان يدعو جيرانه دائماً لمشاركته طعام الغداء، وأنه عاصر وعايش أهل الصحراء والجبال وأهل الساحل، لذلك امتلأت قصائده بالحكم والأمثال والمواعظ، وعندما سافر للعمل في الدمّام بالسعودية، عرف طعم الغربة والحنين إلى الوطن، مضيفاً أن كل هذه العوامل والظروف صقلت موهبته الشعرية، وعزّزت حضوره في فضاء القصيدة النبطية بالإمارات.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©