الثلاثاء 16 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
الترفيه

عتيج بن روضة.. أديب الشعر

عتيج بن روضة.. أديب الشعر
11 يوليو 2020 00:20

إبراهيم الملا

«قال من باتت عيونه ما غِضَت
ساهرٍ ما لذّ طيب الرقاد
كل ما أنا قلت غضّي إهملت
خرّس الدمع المخدّة والوساد»

تبرز صيغة المناجاة الذاتية في الكثير من قصائد الشاعر عتيج بن روضة «1940 - 1984»، خصوصاً ما يتعلّق بقصائده الغزلية الثريّة بالحوارات المتبادلة في أفقها التخيلي بين طرفين يعانيان من بعد المسافة، وبوادر الهجر، وقلّة الحيلة، وهي العناصر المعيقة للتواصل والاجتماع، والتي يظل بن عتيج مصرّاً دوماً على تخطّيها وتجاوزها ولو من خلال السلوى، والتمنيّات المبهجة، والرغبة في تغيّر الحال، وتحسّن الظروف.
وفي القصيدة أعلاه يأتي حوار الشاعر مع نفسه هذه المرّة، كتوكيد على هيمنة العزلة الجاثمة عليه، ما اضطره إلى توصيف معاناته من الأرق والسهر الطويل الذي دفعه إلى إجبار عينيه على النوم، ولكن دموعه السخينة ساهمت في مضاعفة الأرق وحرمانه من لذة الرقاد، إن هذه الاستعارات البديعة في قصيدة بن روضة، تشير إلى منابع خِبْرةٍ ودُرْبَةٍ ومِراسٍ، اختزنها الشاعر في معينه الإبداعي، وبثّها بين جنبات أبياته وأوزانه وقوافيه، مكتملا برشاقة التعبير، ورقّة المعنى، وشفافية البوح.

قصص جاذبة
اتّسم شعر عتيج بن روضة بالعفوية، وبالملكات الفطرية، التي أعانته على سبك أبياته وزخرفتها وطرحها دون تكلّف أو تعقيد أو لويّ للمفردات، مستخدماً الكلمات السهلة والواضحة والمتوفرة على نسق سردي يغلب عليها حسّ الرويّ، والإِخبار، وعرض القصص الجاذبة للمتلقي، وهو شعر أشبه بالغواية المتخلّصة من الحيلة والترميز والإبهام، ومثال على هذا النسق السردي القصيدة التي يقول فيها بن روضة:
«زارني بعد العصر عندي حِضَر 
 بسّ ما طوّل قعد له ساعتين
يوم سلْمَت شمسنا عنّي ظهَر 
 قلت وين تبغي تمهّل يا ضنين
قال لي خايف من أقوال البشر 
 خايف العدوان تبعدنا سنين
قلت له يا سيدي لك الأمر 
 خلني أوصّلك بس قلّي وين
قال لي ساكن أنا جنب القصر 
 في بيوت الشعب باني طابقين»

هذا السيناريو البصري المكتمل الأركان الذي تجسّده قصيدة «زارني بعد العصر» ينمّ عن اشتغال واضح من قبل الشاعر على بنية الصورة في القصيدة، صورة تتأرجح بين شدّ وجذب، واقتراب ونأي، وتودّد وممانعة، مستخدماً الشاعر صيغة الحوار مجدداً، ليكشف عن خبايا النفس وأشواقها، والجامعة هنا بين طرفين يقتنصان اللحظة السانحة لإدارة حديث يكشف كل منهما فيه عن مكنون فؤاده، ولواعج قلبه، ودهشته المضاعفة، انتقالاً من الحذر إلى التجاوب، ومن التردّد إلى التفاعل، ومن الريبة إلى الاستئناس.
وهذه القصيدة كما يذكر لنا الشاعر والباحث مؤيد الشيباني في كتابه «جابر جاسم-رحلة الكلمة والنغم» وبمناخها القصصي اللافت، هي التي شجّعت الفنان جابر جاسم على تلحينها وغنائها، لأن الأسلوب القصصي هو من الوسائل المهمة للوصول إلى الناس، حيث تبقى القصة عالقة في الأذهان وفيها شحنة عاطفية إضافية، ومن هنا قدم جابر جاسم الأغنية المستندة على الحكي المُمَوْسَق، إذ تبدأ القصة بلقاء أو زيارة من قبل الحبيب، ثم تتوالى عبر الأبيات التالية للقصيدة، ومنها هذه المقاطع:
ودّعْنِيِه وراح ضيّعت الفكر 
 قمت أتصدّد عن يساري واليمين
دمع عيني فوق خدّيني إنتثر 
 خرّس إهدومي وأنا واقف حزين
حبّهم في كل الأعضاي انتشر 
 وغيرهم والله ما بهوى حِسِين

إلى أن يقول:
با نخلّي حاسدينا في بحر 
 ونبقا نحنا في بحرنا سابحين
ومن دخل بحر الهوى شاف الخطر 
 والهوى أهله أكيدٍ مِخطرين

ويبدو أن لوازم هذا البناء الوصفي المجسّم اقتضى من الشاعر بن روضة الاهتمام بالتفاصيل الجانبية واستحضار ردّات الفعل الجسدية التي لا تصطادها سوى عين الشاعر، وسوى مداركه التي تتّسع للهوامش والأمور الخافية التي لا ينتبه لها الآخرون.
من أشهر النتاجات الشعرية لعتيج بن روضة، قصيدته: «غزيّل فلّه، في دبي لاقاني»، والتي تدخل في سياق القصائد المشهدية التي أبدع شاعرنا في توثيقها وضخّها بالحركة والحيوية التي تستحقها هذه النوعية من القصائد اللصيقة بالتجربة الحياتية، وبالمهنة التي مارسها الشاعر منذ العام 1966، وهي التنقّل بسيارته بين العين وأبوظبي ودبي أثناء ظهور بوادر الطفرة العمرانية في المكان، مع تعبيد الطرق، وإنشاء الشركات العقارية، وتكوين النواة الأولية للمدن الحديثة في المنطقة، فكان بن روضة مشاركاً من خلال مهنته هذه في حركة التطوير وإبراز ملامح التغيير أو التحوّل الاجتماعي القادم، وكما يشير الباحث مؤيد الشيباني، فإن وراء قصيدة «غزيّل فلّه» حكاية، بل حكايات لا حصر لها، تبدأ من الرحلة الممتعة بين العين إلى دبي، وتمرّ بذكريات العشّاق ومحبّي الأغاني الجميلة ولا تنتهي، مضيفاً: «إن هذه النوعية من القصائد أصبحت تمثّل هويّة الغناء الإماراتي في المشرق والمغرب العربيين».

15 قصيدة 
في العام 1969، التقى الفنان جابر جاسم بالشاعر عتيج بن روضة الظاهري، وغنى له 15 قصيدة يتعلق أغلبها بالجانب الغزلي، وساهم التعاون بينهما في إثراء المشهد الغنائي بالإمارات، خصوصاً بعد ظهور جابر جاسم بأغنية «غزيّل فله» في الحفل المصاحب لدورة كأس الخليج الثالثة لكرة القدم في الكويت عام 1974 ما أدى إلى التفات أهل الخليج لهذه الأغنية ولكلماتها العذبة، ولحنها الرشيق، وأجوائها العفوية ذات الميل الواضح للإيقاع المتوازن بين السرعة في الثيمة اللحنية، وبين الوضوح المحبّب في المفردة الشعرية، تقول كلمات القصيدة:
«غزيّل فلّه
في دبي لاقاني
إِمشّط القدلة
سلّمت وحيّاني
قال: إش بلاك مِدْلِه
قلت: ضاع برهاني
أسبابها الكِحْلة
تسحر بالأعيانِ
ورموشه مْظِلّه
جيش بميداني
ونحر معلّق له
لولو ومرجاني»

وأصبحت هذه القصيدة والأغنية التي كرّستها في وجدان الجماهير وفي الذاكرة الجمعية، مثالاً ساطعاً للثمار اليانعة التي يمكن أن يطرحها التعاون الخلّاق بين المفردة الرنّانة والساحرة، وبين اللحن المتناغم مع التقاسيم اللغوية لهذه المفردة، إضافة للأداء الغنائي المرهف والموازي لجمالية القصيدة وديناميكية الإيقاع.
هناك قصائد عديدة أداها جابر جاسم من كلمات عتيج بن روضة، منها: «لك قصر وسط الحشا باني»، و«آه من يوف تعلّل بالصبر»، و«راعي الدوج الخضر»، و«يا عين هلّي وبلّي مدمعي»، و«ياللي إنته غالي»، و«ذاب يالجمري فوادي» ومن الواضح طغيان القصيدة الغزلية على الإرث الشعري الحافل الذي تركه لنا بن روضة، بينما اتجهت أغراضه الشعرية الأخرى نحو المشاكاة، والأغراض الاجتماعية، ووصف الظواهر الحياتية الجديدة التي عاينها شاعرنا عن قرب، خصوصاً ما يتعلق بالسيارات وموديلاتها التي أبهرت الناس حينها، وتعامل معها الشعراء وصار لهذه السيارات وأصنافها رصيداً من الكلمات والمصطلحات الموثقة في سجلات الشعر الشعبي منذ أواسط الستينيات من القرن الماضي، وبن روضة مثله مثل الشعراء: «الجمري»، و«الكندي»، و«الكاس» الذين تحدثوا عن تجاربهم مع السيارات ووسائل النقل الحديثة في ذلك الوقت، فتفاعلوا معها شعريا، وخاطبوها في أبياتهم كنوع من التواصل العاطفي والرفقة الحميمية معها أثناء رحلاتهم وتنقلاتهم بين مدن الإمارات المختلفة.
يقول بن روضة في قصيد: «راعي الدوج الخضر» - أي صاحب سيارة الدوج الخضراء-:
راعي الدوج «البلومنت» الخضر 
 وقّف طلّعني معك يومك سعيد
مقصدي بَلوف «سلطان» بخبر 
 «بن وقيش» الشاعر اللي لي عضيد
قاضي الحاجات في يومٍ عِسِر 
 منقذ الغرقان من بحر الصعيد
ثيبني يا خوي قلبي في خِطَر 
 بالعجل هيّا معي يا بوعبيد

ونلاحظ هنا الأريحية التي تتميز بها قصيدة بن روضة، وكيف أنه استنجد بصاحب السيارة الخضراء ليسرع به إلى صديقه الشاعر سلطان بن وقيش، مسميّاً الأشياء بمسمياتها في قالب شعري مفعم بالبساطة وبالانتماء ليوميات الحياة وانشغالاتها العادية ضمن العلاقات الاجتماعية والإنسانية الواضحة والشديدة النقاء.

واحة «الجيمي»
ولد «عتيج بن محمد بن سعيد بن روضة الظاهري» عام 1940 بواحة «الجيمي» في مدينة العين، واكتسب وعياً مبكراً بالشعر من خلال المحيط الاجتماعي والفضاء البصري المحيطان به، وكان لحضور الشعر مكانة ملحوظة بمدينة العين التي احتضنت كبار المبدعين المتميزين بتوليف القصيدة النبطية، والاحتفاء بها، ضمن النسيج الحياتي العام، وضمن الثقافة الشعبية الموزعة على البيئتين الزراعية والصحراوية، وأثّرت الطبيعتان الداخلية والخارجية في آن على مخيّلة شاعرنا «بن روضة» وعلى امتلاكه للغة تعبيرية مغايرة، خصوصاً وأن ممارسته الزراعة ورعاية الإبل منذ صغره ومشاهدته للمناظر الخلّابة وسط الأفلاج والغدران والأشجار المتنوعة والجبال المحيطة والبراري الممتدة على جنباتها، جعلت ذاكرة بن روضة موصولة بهذه المشاهد الماتعة، المقيمة في روحه وفي مرجعيّته الذهنية.

«ديوان بن روضة»
صدرت المجموعة الشعرية لبن روضة من خلال أكاديمية الشعر بأبوظبي بعنوان: «ديوان عتيج بن روضة»، جمع قصائد الديوان وحققها وراجعها الباحث مؤيد الشيباني الذي بذل جهداً مقدّراً هنا في الحفاظ على الإرث الشعري المدوّن للشاعر والذي ظل مجهولاً ومنسياً، إلاّ في الأغاني التي وثّق فيها جابر جاسم قصائد بن روضة، وهي تقريباً ثماني قصائد، بينما بقي الجانب الأكبر منها لدى أسرة الشاعر، ويوضح الشيباني في مقدمة الديوان إلى ابن الشاعر «محمد بن عتيج» هو الذي قدم له ملفاً يضم مجموعة كبيرة من قصائد والده بخط يده، وهي تظهر لأول مرة، حيث لم ترَ النور منذ رحيله سنة 1984 إثر أزمة قلبية مفاجئة. ولفت الشيباني إلى أن الأوساط الفنية والشعرية طيلة الستينيات والسبعينات لقّبت عتيج بن روضة «بشاعر الجمال» من خلال النصوص التي تضمنت أسلوبه الجديد حينها، وأجواء الغزل والحب وجمالية المفردة، فقد ترك بن روضة أثراً مهماً في مجال كلمات الأغنية في المرحلتين القديمة أثناء بروز الأصوات الأولى في الستينات، ثم في فترة السبعينات الذهبية.

عبيد بن عتيج: منزلنا كان مزاراً للشعراء
يخبرنا «عبيد بن عتيج» الابن الأكبر لشاعرنا أنه كان في الخامسة عشرة من عمره عندما توفى والده في العام 1984، وأن هناك العديد من المواقف والتفاصيل والذكريات التي ما زالت عالقة بذهنه، مستعيداً من خلالها مشاهد تتعلق بزيارات الفنان جابر جاسم المتكررة لمنزلهم وجلساته ونقاشاته حول النماذج التي اختارها جاسم من قصائد والده، والتحضيرات والبروفات الغنائية التي كانا يستمعان إليها ويجريان عليها التعديلات المناسبة.
 وأضاف عبيد بن عتيج أن عدداً من الشعراء كانوا يزورون والده في المنزل وفي مقدمتهم الشاعر «سلطان بن وقيش»، الذي كان من أعزّ أصدقاء والده، موضحاً أن والده كان كثير القراءة والاطلاع على مجموعات متنوعة من الدواوين الشعرية والكتب التاريخية والأدبية، ويستحضر عبيد أيضاً رسائل البريد التي كانت تصل لوالده وتتضمن شكاوي وردود أصدقائه الشعراء على قصائده، حيث كان يهتم بها كثيراً، وينشغل بقراءاتها، ويسعد إذا كانت هذه الرسائل الشعرية مشمولة بالغزل، حيث كان يطرح همومه وأحزانه جانبا ويتفرّغ لقراءتها ويتلذّذ بها.
وحول قصيدة والده: «يا غزيّل فلّه» التي اشتهرت محلياً وخليجياً وعربياً بعد أن أداها المطرب جابر جاسم، قال عبيد بن عتيج، إن أحداث هذه القصيدة مرتبطة بقصة واقعية عاشها والده بكل تفاصيلها عندما كان في إحدى زياراته إلى دبي مستقلاً سيارته «الجيب» المكشوفة، حيث شاهد فتاة جميلة تمشّط جدائلها في أحد بيوت «العرشان» المفتوحة في فريج «الرميثات» قرب سواحل «جميرا»، فأنشد فيها شعراً بالتلقائية المعهودة عنه، ويُروى أنه عندما عاد إلى دبي مرة ثانية ألقى على الفتاة ذاتها البيتين الأوليين من القصيدة، ويذكر عبيد أن المقرّبين من الفنان جابر جاسم انتقدوه لاختياره قصيدة والده: «راعي الجيب الخضر» واعتبروها قصيدة شخصية جداً، وغير مناسبة للغناء، فردّ عليه جابر جاسم بأنها قصيدة تتضمن معاني جميلة، ورموزاً خافية يفهمها فقط من يقرأ ما بين السطور.
ولفت عبيد إلى أن والده كان يغيب عن المنزل معظم أيام الأسبوع بسبب عمله بإحدى شركات النفط بأبوظبي، حيث كان يقود شاحنات البترول في فترة الاكتشافات الأولى للنفط بالمنطقة، مضيفاً أن والده عمل بعد ذلك في دائرة الماء والكهرباء بأبوظبي التي كان يرأسها السيد سعيد عتيق الخميري، والذي جمعته صحبة طويلة مع والده وكان من أقرب أصدقائه.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©