الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
الترفيه

«العيالة».. للعشق أسرار

«العيالة».. للعشق أسرار
4 يوليو 2020 00:24

نوف الموسى

لا أحد يستطيع أن يجزم بأنه يعرف تمام العلم، لمَ يعشق المؤدون لعرضة «العيالة»، هذا الفن العريق في دولة الإمارات، ارتحل الباحثون ووثقوا تكوين التشكيل الخارجي والداخلي لكل استعراض، وأبرزوا معنى إضافة الزخرفة بصنوف حركية في فضاء فن «العيالة»، وصنفوا طبيعة المقامات المستخدمة المرتبطة بميلان الشمس في الأفق، موضحين كيف أن نشوة المؤدين تكمن في مقام «البداوي»، الذي يؤدي باللحن ويغلب عليه صفة السجع:«الله من جفن جفاه النوم.. والقلب من لبه ضميري حام، أشوف براق سرى بغيوم.. غطى الجزيرة مصرها والشام». طارحين بذلك أبرز التحديات لأوجه تطور عرضة «العيالة»، إلا أن السؤال عن ما أحدثه عبر أجيال توارثت عمقه وشعوره الأخاذ، ظل مفتاحاً لأفق جديد حول التجربة الإنسانية وارتباطها اللامتناهي مع طقوس اجتماعية ببعدها الشعبي وتجلياتها الفنية التي تكشف مدى القدرة الإبداعية الفطرية بسماتها الطبيعية في عفوية الارتباط والاتصال والبحث عن ما يمكنه أن يؤصل وحدة مجموعة من الناس، في مساحة متفرد، يرسمون فيه الإيقاع الذي من شأنه أن يمدهم بالقوة والانضباط والجمال، خاصة أن فن «العيالة» يقاس بمعايير عسكرية على مستوى المضمون والمفهوم والأداء.

ردة الفعل التي أبداها الباحثون والمؤدون في فن «العيالة» مؤخراً، حول سؤال «الاتحاد» عن الفن وأبعاده الفكرية والاجتماعية والثقافية، والأدوار التي يلعبها في الوقت الحالي، على مستوى تمثيل الفن في الإمارات عبر فرق الفنون الشعبية، كانت تنم عن عدم رضا عن مستوى الدعم التنظيمي، لماهية الفن نفسه، وإمكانية تطويره، فقد شهدت المرحلة الحالية، خفوت وتفكك للعديد من الفرق القائمة على أباء مؤسسين لها، أوضح حولها صالح سلطان الحبشي الزعابي  جمعية أبوظبي للفنون الشعبية، بأن عرضة «العيالة» وقبل كل شيء حالة من العشق، تستدعي أن يكون المنتمون لها، يعيشونها بالكامل، متحدثاً عن والده - أحد رواد فن العيالة - أنه رحمه الله مع نخبة أقاموا الفن وامتهنوا تعليمه وساروا به إلى القلوب والعقول، وأنهم شجعان ولن يتكرروا، لأنهم أبناء الحياة وهي من علمتهم، ففي اللحظة التي كان يقود فيها والده أعداداً من الرجال، في العرضة كان مثل النوخذة تماماً، يدير ويلهم ويحرك ويشد من أزرهم، ويحفظ الأناشيد، ويتماهى مع الإيقاع بشكل موزون، وفق أصول فن «العيالة».

برنامج اعتباري
قبل الولوج إلى الأسباب الرئيسية في تراجع حضور فن «العيالة»، وغياب برنامج اعتباري طوال السنة، مدعوم بصندوق لإثراء تجربة ممارسته وتعليمه للأجيال الحالية والقادمة، نتوقف قليلاً عند مفهوم أبرزه صالح سلطان الحبشي الزعابي، بقوله: «المؤدون الأوائل لفن العيالة كانوا بمثابة (طرابه)»، و«الطرابه»، هنا تعود إلى الحالة الطربية والوجدانية التي تربطهم بفن «العيالة» والذي بطبيعته أنتج مكونات موسيقية تشمل مقامات رئيسية تتضمنها عرضة العيالة وثقها الباحث سعيد بن خلفان أبو ميان، وهي: مقام «الأميري»، ومقام «البداوي»، ومقام «العاشوري»، ومقام «الليلي أو المشي».
ويشرح أبو ميان تفاصيل التراتيب الزمنية وعلاقتها بكل مقام، حيث تبدأ العيالة بالمقام الأول، وهو «الأميري» بعد صلاة العصر مباشرة، ويتغنى به نشيدة أو نشيدتين، ثم ينطلق بعد ذلك مقام «البداوي»، ويستمر إلى قبل صلاة المغرب، بربع ساعة تقريباً، ثم المقام الثالث «العاشوري» أو «التعوشير»، إلى أن يحين موعد أذان المغرب، ثم بعد ذلك يتجمعون مرة ثانية وينشدون نشيدة أو نشيدتين من المقام «الليلي»، وأخيراً بعد إتمام العشاء يذهب المؤدون إلى تأدية صلاة العشاء، ثم يأتي بعد ذلك والد المعرس، أو ولي الأمر ليأمر رئيس الفرقة بتجهيز جماعته لتبدأ مراسم زفة المعرس إلى بيت والد العروس، ومن هنا يبدأ مقام نشيد «المشي» إلى أن يصل الموكب.

الدعم المادي 
اتفق سعيد بن خلفان أبو ميان، وصالح سلطان الحبشي، في نقطة جوهرية حول تراجع مستوى حضور فن العيالة كممارسة احترافية في المجتمع المحلي، وهو «غياب الدعم المادي بشكل مباشر»، نظراً للمتغيرات الحياتية، والمستوى المعيشي، الذي بات يتطلب حوافز أكبر تحفز الشباب، للاستمرار في التعلم والممارسة، إضافة إلى أهمية أن توكل مهام جمعيات الفنون الشعبية إلى مختصين في المجال، قادرين على تقييم ووضع البرامج وتأهيل العلاقة بين المُدرب والمتدرب. وتساءل سعيد أبو ميان عن الفرقة القومية التي تأسست في عام 1985، والتي كانت تابعة لوزارة الإعلام والثقافة حينها، هل هي فعلاً مستمرة في دورها، والتي يشهد لها في وقت سابق تدريب الكثير من الشباب المواطنين وقتها، من ساهموا بدورهم في تنشيط جمعيات الفنون الشعبية، على مستوى الدولة، والتي أشرف على تدريبها في بداية تكوينها الباحث عيد الفرج. يذكر أن الفرقة القومية اعتبرت من أفضل الفرق الشعبية كونها برعت في إتقان جميع الفنون الشعبية تقريباً ونقلته وقدمته على مسارح خارج وداخل دولة الإمارات.

تفاصيل الحياة
ومن أمثلة مقام «التعوشير»: «حي بنسيم الشرق لمريف.. لي نفحته نرجس ومشموم، رحبت به وأصبحت في كيف.. مني وزالت كل الهموم، بنشدك لي مريت ياريف.. داره عسى تكفا من اللوم، هات الخبر من دون تكليف.. يالمطلعي بالخبر ملزوم، عن صاحبي عذاب المراهيف.. شرها يداري رمسة اللوم، ايزين لي فيه التواصيف.. ريم رعا منبوت لحزوم».
أما من أناشيد المقام الليلي (المشي)، وهو المقصود فيه زفة العرس، يمشي فيه أفراد الفرقة الشعبية خلف العريس بعد صلاة العشاء: «اسميك يا بنادم غرير.. دنياك وتغير هواها، عقب الشراغه الأوليه.. عكوك في غيه هواها»، ونشيد آخر يقولون فيه: «يا ناقة الدنيا غديتي.. من عقب لذات وشراغه، لول على اليايز مشيتي، واليوم همتي في المراغه».
اللافت هو اهتمام الباحثين بتفسير تفاصيل الحياة داخل عرضة «العيالة»، وبالأخص ما أقدم عليه الباحث سعيد مبارك الحداد، وتركيزه على «الكثرة والحجلة في العيالة الإماراتية»، مرتكزاً على «ما صدر من أفواه المؤدين (الرازفين)»، إضافة إلى «المشاهدة والملاحظة والتحليل والتجريب والتدقيق»، إلى جانب «الممارسة والتعايش عن قرب»، فالأخير قصد به الحداد بقوله إن الغالبية في عرضة العيالة يؤدون، وليس بمقدورهم التعبير والتحدث عما يقومون به، وليس هذا عيب أو تقليل من شأنهم، بل هي الحقيقة المعيشية القائمة هناك، ومن يعبر ويتحدث منهم، لا يتحدث ويروي بطريقة مفصلة ودقيقة، حتى لو وجه سؤالاً مباشراً، لأن معرفته بالجانب الذي سئل عنه محدودة، لا تتعدى حدود ممارسته لهذا الفعل، بمعنى آخر إنه يقوم بأداء فعل أعجب به وأحبه، وأخذ يمارسه يوماً بعد يوم حتى أتقنه.

الحجلة الاستعراضية
الباحث سعيد مبارك الحداد تطرق إلى «الحجلة في العيالة الإماراتية»، وهي لون من ألوان الفنون الشعبية المرتبطة بالحركة الاستعراضية، بمختلف أشكالها، سواء كانت العيالة أو الحربية أو عيالة العين أو الوهابي أو غيرها والتي تنتمي إلى واقع الحياة العسكرية، وهناك سمات أساسية ظهرت على المؤدي من خلال تأدية الحجلة بحسب سعيد مبارك الحداد، وهي أولاً: صفة «العقير»: والعقير قوامه غير سليم، وسيره سير عقيم، لا يأتي سيره كسير الإنسان السليم، ويغلب عليه طابع البطء، أثناء سيره، وتأتي خطواته غير متسارعة، وحركته توحي وكأنه مقيد، وهذا ما هو بارز ويقوم بأدائه مؤدي الحجلة في العيالة. وثانياً صفة «التريث»: والتريث هو مسير المتأني كما هو موجود عند المؤدي للحجلة في العيالة. وذلك من خلال رفع رجل وتنزيل رجل، وهكذا بالتناوب، مما جعل خطواته تأتي متثاقلة. وثالثاً صفة «النزا»: أي القفزات من خلال الحركة حين يقوم المؤدي برفع رجل وتنزيل الرجل الأخرى، حيث تأتي هذه الحركة بحركة القفز إلى الأعلى، التي تساعد المؤدي على التغيير وإبراز الجانبين التعبيري والتشكيلي الداخلي عند بناء الحركة بشكل عام.

تركيبة فنية 
يعتبر كتاب «شعر عرضة العيّالة والآه هلّة»، للباحث سعيد بن خلفان أبو ميان، من بين الإصدارات المهمة التي وثقت كلمات الأناشيد في عرضة العيالة، بحسب كل مقام، وكانت استجابته الأولى لسؤال «الاتحاد» عن جهوده في عوالم «فن العيالة» بأنه يشعر أن «العيالة انتهت»، وهنا يشير إلى توقف تطور الفن، من حيث الكلمات والمقامات، فبالرغم من الجمالية التي تكتنزها الأناشيد قديماً، إلا أن تطويرها بقصائد جديدة وابتداع مقامات حديثة، جميعها تعكس الحالة الراهنة من استمرارية أي فن أو توقفه تماماً، ويُعرف أبو ميان عرضة «العيالة» بأنها استعراض العدد والعدة وتعني كلمة العيالة «الغزاة»، وجاء في المصطلحات العربية المتداولة ما يثبت ذلك المعنى، فنقول: «عال فلان على رجل من الناس»، أي اعتدى فلان على رجل من الناس ومن هذا التعريف يمكن أن نفهم بأن العيالة تعني مرحلة من مراحل التدريب والاستعدادات العسكرية يقوم بها الرجال لردع كل معتد (عايل)».
وبين أبو ميان أن أصل انطلاق الأناشيد «الأشعار» الخاصة بالعيالة جاءت من نجد، بالمملكة العربية السعودية، ولكنها لا تطغى على حالة «العيالة» في أنها معايشة ذات تركيبة فنية خاصة بدولة الإمارات، من بينها خروج الفتيات «النعاشات»، وسط عرضة العيالة وتلويحهن بشعورهن لإثارة الحماس في نفوس المؤدين الشباب ليردوا عنهن (العيالين) المعتدين على أرض الوطن. وبطبيعة الحال، فإن لكل مقام في عرضة العيالة، هناك أناشيد خاصة فيه، بدءاً بمقام «الأميري»، الذي يتسم بالحماس والحيوية، ويغلب عليه حضور الشيوخ والأمراء، لذلك تؤديه الفرقة بشيء من القوة، ومن الأمثلة عليه: «يا نسيم هب جدواكم.. اسهر عيوني بطاريكم، ما سخيت أنا بفرقاكم.. فرحتي ساعة الاقيكم، تبتهج نفسي برؤياكم.. من مزاي تلتقي فيكم، مثل ما تهوون نهواكم.. يعل تبتلي مناويكم».

الحضور والتميز
ما يدعونا للتوقف في عوالم المؤديين لعرضة العيالة، ما ذكره الباحث سعيد مبارك الحداد في ارتباط الكثرة في فن العيالة بما أسماه بالحضور والتميز، وهو تحديداً ما يوحي للمتابع والقارئ بأثر «حضور» المؤدين، في أنهم لا يعيشون تفسير الحركة داخل العرضة، وإنما يحضرون فيها بشكل كليّ، وهنا تكمن قوتهم، يصفها الحداد: «هو ذلك الذي يشعرك بوجود هذه العيالة، التي تقول: ها أنا حاضرة بكل ما فيّ ولديّ، بوجهي الحقيقي وبصورتي الطبيعية المتكاملة الأبعاد، انظرني أو انظر إليّ وتلمس فعلي أيها الناظر الباحث عني وعن خفاياي، هذا الحضور يشدك ويجذبك إليه دون أن تشعر وهو يحلق بك في عالم لم تره ولم تتعايش وتتفاعل معه إلا في تلك اللحظات التي أنت فيها تتعايش وتتفاعل مع العيالة، شعور يجعلك تعيش الحلم أو الواقع البعيد بوقائعه، من قوة ذلك الحضور وتأثيره عليك».

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©