الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
الترفيه

مبارك بن قران.. قاموس الوطنية

مبارك بن قران.. قاموس الوطنية
27 يونيو 2020 00:31

ناصر الجابري (أبوظبي)

مبارك بن قران المنصوري،(1939- 2018)، أحد أهم الشخصيات البارزة في إمارة أبوظبي، وصاحب بصمة مشرقة في تاريخ الإمارات، بما له من إسهامات وأعمال أشرقت بها سيرته، وتلألأت بها صفحاته، وبما حمله من صفات جعلته من بين الرجال الذين لعبوا دوراً رئيسياً في دعم دولة الاتحاد من خلال الإيمان بالفكرة والقناعة الراسخة بتوحد الأرض، حتى أصبح مرجعاً في الأخلاق، وقدوة مجتمعية في البذل والعطاء. 

هذه الحياة المليئة بالخير والنقاء والصفاء، بدأت في عام 1939، تحديداً في منطقة الظفرة بأبوظبي، حين ولد المنصوري، لأسرة ممتدة وعائلة عريقة عُرف عنها دورها البارز في ذلك الوقت، حيث تميز أعلام العائلة بفعالية تواجدهم المجتمعي، من خلال حرصهم على التوفيق والمصالحة بين مختلف الأفراد، وضمان المساهمة في أمان واستقرار المجتمع، والتعريف بالأخلاقيات السمحة التي نصت عليها الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، وتذكير المجتمع أن الجميع يتشارك الدين والتاريخ والمصير واللغة، فكثيراً ما انتهت خلافات بإسهامات مباشرة من عائلته. 

هذه الإسهامات، جعلت من مبارك بن قران المنصوري، ينشأ وسط مجتمع ينبذ التعصب، ويدعو إلى التسامح والتجمع والتوحد، وينهل من صفاء القلوب التي اتجهت جميعاً نحو اكتساب الرزق في المنطقة، ويواصل تعلم القرآن الكريم والأحاديث وسير الأولين، وهو مؤمن بأن عليه دوراً لاحقاً في خدمة مجتمعه، ومواصلة الدور الذي وجده في الكثير من أفراد عائلته وهم يصلحون ما بين المتخاصمين، ويوحدون الجهود تجاه خدمة المجتمع، وهي أدوار عرف أنها الركيزة الأساسية لاستقرار المجتمعات، ومضاعفة الطاقات والهمم لتجاوز التحديات المختلفة التي عايشها أبناء الإمارات في ذلك الوقت. 
خلال النشأة والصبا، برزت في شخصية مبارك بن قران المنصوري، صفات القيادة والحكمة، حيث كان كثيراً ما يستشار برغم صغر سنه، إدراكاً من محيطه بأن لديه عمق الإدراك وسعة الأفق، فظهرت فيه ملامح القيادة مبكراً، وتولى دوراً مجتمعياً بين أفراد عائلته، من خلال المشاركة في مجالس القبيلة، وإبداء الرأي والنصح والمشورة في العديد من المستجدات المجتمعية، والتي كانت تناقش في المجالس باستمرار، كما مثلت له المجالس فرصة للتعلم من خبرة الكبار وتجاربهم، والاستفادة من المواقف الحياتية التي يسردونها، وصقل الشخصية بمزيج بين رغبة الشاب في إفادة مجتمعه واستخلاص خبرة الرعيل الأول، فكانت «المجالس مدارس» بالنسبة إليه، يحرص على حضورها للاستزادة بنور علمها وتنوع ما فيها. 
إن السمعة المتزايدة عن ما تمتع به مبارك بن قران المنصوري، من صفات وأخلاق وشهامة وشجاعة، جعلته قريباً من الوالد المؤسس، المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، منذ بداية الستينيات، فكان - طيب الله ثراه - حريصاً على إشراكه في مجالسه، يسأل عن حضوره وغيابه، ويطمئن على صحته، ويدخله في النقاشات حول رؤى وتطلعات الدولة وجهاتها المعنية وآماله وأحلامه، فيبدي مبارك بن قران رأيه ويستزيد بالحكم والأمثال والمواقف والخبرات الحياتية المتراكمة التي لديه، فيثني الأب المؤسس على المشورة والرأي السديد، وعلى قائلها الذي يحمل في قلبه مشاعر الحب والولاء والانتماء للدولة. 

مكانة اجتماعية
بالتوازي مع الدور القبلي النشط والمكانة الاجتماعية الرفيعة التي حظي بها مبارك بن قران المنصوري، كان مؤمناً بأن القبيلة الأعم والأشمل هي الإمارات، فيستضيف العديد من وجهاء القبائل في مجلسه، وأول من يسارع لحضور مناسبات مختلف القبائل والوقوف معهم في السراء والضراء، وهي المواقف التي جعلته قريباً من أنفس الجميع، محبوباً من الأفراد، سواء بصغارهم وكبارهم، لإدراكهم بأن شخصيته متفردة في نوعها؛ فهي خلاصة من التجارب والخبرات الممتدة، إضافة إلى القيادة والحكمة وسعة الأفق وبُعد النظر، وهي الأمور التي توافق عليها مختلف أفراد المجتمع. 
إن هذه الصفات، جعلته وبمرسوم صادر من حاكم أبوظبي، عضواً في المجلس الاستشاري الوطني، بهدف الاستفادة مما عرف عنه من صفات ومشورة، حيث كثيراً ما كان فاعلاً في المناقشات المختلفة حول الخدمات التي تقدم في إمارة أبوظبي وجهود الجهات المعنية، مقدماً الرأي حولها والعديد من التوصيات التي يتم تنفيذها، إدراكاً من المعنيين بصحة الرأي السديد لمبارك بن قران المنصوري، وما لديه من ثقافة صقلتها مواقف الحياة، فكان أحد أهم الأعضاء ممن لهم البصمة الحاضرة والواضحة في مختلف الجلسات حول شؤون المواطنين واهتماماتهم وقضاياهم. 
إن هذا الدور والبصمة الواضحة له في المجلس، جعلته ينتخب رئيساً للجنة شؤون «المنطقة الغربية»، والتي تختص بإعداد التقارير وتقديم التوصيات بشأن المشاريع وإنجازات التنمية في منطقة الغربية، والتي تُعرف اليوم بـ «منطقة الظفرة»، حيث رأس اللجنة وتولى شؤونها، وقدم رأيه في العديد من القطاعات الحيوية، ومنها قطاعات الصحة والإسكان والتعليم والبلديات في المنطقة، مشدداً على أهمية الكادر البشري المواطن خلال مختلف تقارير اللجنة، انطلاقاً من قناعته الراسخة بأن سواعد الوطن لديهم الإمكانيات والقدرات التي تؤهلهم لتبوأ أعلى المراتب. 
وخلال عام 2007، تم تعيينه، رئيساً للجنة المصالحة التابعة لدائرة القضاء بالمنطقة الغربية «الظفرة»، وساهم في فض العديد من النزاعات والتوصل إلى الحلول الودية والتسويات بين مختلف أفراد المجتمع، إضافة إلى أدوار أخرى، حيث تناط بلجان المصالحة مهام تقدير قيمة الأصول والمنقولات في التركات، بناء على طلب المحكمة، وتقديم الرأي للمحكمة في حالات إثبات الرشد وترشيد الأيتام والمحجور عليهم أو تعيين أو عزل الأوصياء، كما توكل إليها مهمة تقديم المشورة في حالات البيع في قضايا التركات، أو قسمة الإنفاق، إذا كان بين الورثة قاصر، وتحديد العرف السائد حسب الأحوال، بناء على طلب المحكمة، وإبداء الرأي في كل ما يحال إليها من الجهات المختصة.

جائزة أبوظبي
خلال عام 2018، تم الإعلان عن تكريم مبارك بن قران بجائزة أبوظبي، باعتباره أحد أبناء الإمارات المخلصين ممن حققوا إنجازات كبيرة على الصعيد الوطني، حيث نقل تاريخ وسيرة ومواقف الإمارات والقيم التي اكتسبها خلال تلك المرحلة إلى الأجيال المتعاقبة، إضافة إلى الإسهامات البارزة التي بذلها خلال عضويته في المجلس الاستشاري الوطني ورئاسته للجنة المصالحة، وحرصه على تقديم العديد من النصائح والتوصيات والمقترحات للجهات المعنية والأفراد، وما تمتع به من سداد في الرأي وحكمة للبصيرة، وهو ما يجعله مستحقاً للجائزة. 

رأي سديد
إن سديد الرأي الذي عُرف به مبارك المنصوري، جعل مكانته عظيمة في مجتمعه، يأتي له أبناء قبيلته والقبائل الأخرى لأخذ النصح والاستزادة من العلم الذي نهله من مدرسة الحياة، فيحكي لهم عن السير الأولى وقصص الآباء والأجداد وخصوصية المنطقة وما تمتع به أهلها من خصال وأخلاق، ومن ثم يواصل الحديث عن مشاهد متفرقة من حياته، ويبدي لهم النصيحة في مختلف شؤون الحياة، فنعم تلك النصيحة التي تأتي من واقع وعي وإدراك بحقائق الأمور، وتستند إلى ثوابت ومبادئ وقيم نبيلة آمن بها وأدرك أهمية حضورها المجتمعي.  وكثيراً ما كان يشارك مبارك بن قران في رحلات الوالد المؤسس، حيث عُرف بالصديق الوفي، لعب دوراً مجتمعياً في حث أبناء قبيلته باعتباره شيخاً للقبيلة، لأن يكونوا قادرين على تلبية النداء من خلال التسلح بالوعي والعلم والمعرفة ومواصلة التحصيل العلمي بجد واجتهاد، والانخراط في مختلف القطاعات الوطنية، حيث كان للدور القبلي الذي ساهم فيه، خير الأثر في تحفيز الطاقات وبذل الهمم وتحفيز الأنفس نحو خدمة دولة الإمارات، فاستفاد الآلاف من الشباب الذين حضروا في مجالسه، وتلقوا معاني ومفاهيم الوطن وخدمته والسعي لأجله. 

وخلال ذات العام، وتحديداً في يوليو من 2018، رحل الشيخ مبارك بن قران المنصوري إلى الرفيق الأعلى، عن عمر ناهز 78 عاماً، مُبقياً على سيرته العطرة ومواقفه المتلألئة وحكمته الممتدة، ومشوراته وتوصياته التي يستفاد منها حتى الآن، حيث يعد رمزاً وطنياً تلقى العلم من مدارس الحياة، وتدرج في مراتب الحكمة والمعرفة، وتحلى بالوفاء والنبل، فكان مثلاً - بحق - للأجيال اللاحقة التي تستلهم منه دروساً في أهمية العمل لأجل التوفيق والمصالحة، وضرورة تقديم كافة الجهود الممكنة للوطن. 

سنوات العطاء
واصل مبارك بن قران المنصوري دوره المجتمعي في سنوات العطاء، مقدماً العديد من القصص النادرة والمواقف الزاخرة في ذاكرته حول المغفور له، الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، مؤكداً على أبناء المجتمع ضرورة التحلي بقيم الآباء المؤسسين واستحضار إرثهم، والعمل على استكمال نهجهم النبيل في مختلف الأعمال، كما كان حاضراً باستمرار في مجالس القيادة الرشيدة، مكملاً مسيرة العطاء والنبل والصفات الحسنة، مؤمناً بأن عطاء الإنسان لا يتوقف إلا بتوقف القلب، وأنه لابد من رفد الشباب بالخبرات التي تراكمت، وتوجيههم وإرشادهم نحو صحيح السبل، وهو ما جعل العديد يلتف عليه، سامعاً لنصحه في مختلف المجالس. 

مجلس «غياثي»
يعد مجلس «غياثي» والذي تم إطلاق مسمى مبارك بن قران عليه، تقديراً لمساهماته، مكاناً للمناقشة حول شتى شؤون الحياة، حيث أتت التسمية تثميناً وتقديراً من قيادتنا الرشيدة لأحد رجالات الدولة المخلصين، الذي ظل طوال حياته يعمل من أجل خدمة الوطن وإعلاء شأنه، وبناء مسيرة التنمية، وإسداء النصح والتوجيه للأجيال المعاصرة، ليستمر اسم مبارك بن قران حاضراً في مجلسه الذي يؤدي خدمات مجتمعية لتعزيز التواصل بين مختلف الأجيال.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©