السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
الترفيه

«ابن صبيح».. شاعر الوفاء

«ابن صبيح».. شاعر الوفاء
27 يونيو 2020 00:31

إبراهيم الملا

«ونّيت ونّات رضايف
 يوم الدليه النوم غافيه
وتصفق كفوفي بالحسايف
 على زمان مرّ ماضيه
وما بي من وقوت الشظايف
 بي ضاوي الليل وطواريه
ودمعي من عيوني ذرايف
 على إوْجِني ما حفّ ياريه»

هكذا، يرتحل بنا الشاعر الكبير محمد بن سعيد بن صبيح الفلاسي «1913 - 2003»، والمشهور بـ «ابن صبيح»، إلى مدارات رحبة وشفّافة تمسّ الذات والمكان، وتأخذنا عبر الزمان ومسارب الوقت، إلى مرابع الطفولة المتداخلة مع الملامح البكر لبادية «دبي» وما يحيط بها من حواضر زاهية ومكتفية بسكّانها القلائل، وأهاليها الملتمّين على وعد متجدد مع خيرات الأرض وعطايا الطبيعة، في تلك البوادي المتشكّلة ببواطن الصحراء بدايات القرن الماضي، عرف ابن صبيح وأيقن أن الشعر
 وحده قادر على ترجمة الجمال الحسّي والمعنوي الذي يبثه المكان بكل أحواله وتقلباته، عند الاستقرار المؤقت، وعند الترحال الدائم، وذلك بحثاً عن غنائم المطر في الرمال الخصبة، وسط مشاهد خلّابة تخلق أمام أهل البادية فسحة لتنمية المدارك واستجلاب الحكمة، والمداومة على الصبر، وامتلاك المعرفة الفطرية بسلوك الإبل والحيوانات الداجنة، وبتنوّع المواسم، ومكامن الماء، وأنواع الشجر والنبات، وبالطبائع الإنسانية ورغبتها الأكيدة في البحث عن وسائل العيش، والحفاظ على الموارد، والتكيّف مع الظروف الصعبة والأحوال المتبدّلة، وكل هذه المناخات البيئية المتراوحة بين ضيق وانفراج، وبين تيه واستدلال، وبين جفاف ونماء، وثّقها ابن صبيح في شعره، وذكرها بتفاصيلها في أبياته، فصارت بديلاً لغياب الوثائق والمدوّنات الخاصة بهذا المجال، وكان له دور كبير ومهم في حفظ الظواهر التراثية العتيقة من التلاشي والاندثار والنسيان.

ويتوضح التوثيق الشعري للمعالم الجغرافية والمكانية في قصيدة له بعنوان: «وادي القور» يقول فيها:

شرتا المهبّ الساري                                   يا من جدا لْحيور
غبّر رسم الأثاري                                     وأصبحت به مسرور
واطرى عليه طاري                                    بيّي «بوادي القور»
وبركب هميم وضاري                                 على الكايد صبور

لعلَّ في هذا التنقل والانفتاح على رؤى وانتباهات جديدة ومتنوعة، عوامل ساهمت في صقل الموهبة الشعرية لابن صبيح، ووضعه في مصافّ الشعراء الكبار والمميزين في ساحة الشعر النبطي في الإمارات، وكان - رحمه الله - من ركائز وأعمدة هذا الشعر بكل أنواعه وأغراضه وتجليّاته، من غزل ومديح ورثاء ومشاكاة، وتميز، خصوصاً في فن «التغرودة»، وكانت له إسهامات ملحوظة في هذا السياق، ففي تغرودة له يصف فيها الناقة «محنة» يقول ابن صبيح:

«محنة» على الكايد طويل هواها
علّ ما يصيب عوقٍ لي مطاها
في سيرها مضمون ومعشّاها
ولو يبات جايع هيه ما ينساها
وطلبت ربي في حماه حماها
ويعل السحب تمطر على مفلاها

وتفصح هذه الأبيات عن مدى تعلّق الشاعر بالهجن، ومدى إبداعه في وصفها، وقدرته على قراءة الطبائع الخافية على الآخرين، والمتعلقة بهذا الكائن الصحراوي بامتياز، والذي يمنح صاحبه ودّاً متبادلاً ومشاعر مشتركه، وحده الشاعر من يستطيع التعبير عنها، واستكناه أسرارها، والبوح بها.
الباحث الدكتور عبدالعزيز المسلّم يذكر لنا أن الشاعر ابن صبيح يمثّل المرحلة الفاصلة ما بين القرن التاسع عشر والقرن العشرين، حيث تأثر ابن صبيح بشعراء القرن التاسع عشر بحكم الفترة التي ولد بها، وهي - على وجه التقريب - الربع الأول من القرن العشرين، ويغلب على شعره وصف حياة البداوة، وذكر التفاصيل المرتبطة بالبدو الذين عايشوا الصحراء.
وأضاف أن ابن صبيح امتهن في فترة شبابه مهنة لها علاقة بالبيئة التي عاش بها، وهي: سباقات الهجن، وذلك قبل ظهور ميادين السباقات، وقبل أن تنتشر هذه السباقات بشكل رسمي وشعبي كبير، وقبل ظهور القنوات الإعلامية المتخصصة في تغطية هذه السباقات المتعلقة بالرياضات التراثية، ولفت المسلّم إلى أن ابن صبيح تأثّر وعانى من ظهور معالم الشيب عليه، وكان هذا التحوّل في المظهر، صعباً بالنسبة له، وشكّل له عبئاً وأزمة حياتية، لأنه كان «أخضر القلب»، ويرى في كبر السن حالة مضّادة لهذا الاخضرار والعنفوان الداخلي الذي لم يفارقه، رغم تراكم السنين وثقل الأزمان على جسده، ويرى المسلّم أن شاعرنا كان دائماً ما يناوش «الشيب» ويعرّيه، وكأن هذا الشيب جاء وحرمه من حظوة معيّنة، ويقول في ذلك شعراً يرد فيه:

يا معذّبي زاد التهابي                          والريج منّي بدّه إنشوف
والشيب كثّر لي عتابي                  دايس نحس ماخَذْني بروف

وفي قصيدة أخرى، حول ذات الأزمة العمرية التي أرهقت كاهله، يقول في صياغة شعرية تنتمي لفن التغرودة:

يوم صبّحت شرتا الينوب تذني
بركب على «الخيلة» وببدع فنّي
ما بي من الدنيا عسر ومحنّي
بي من بياض الذيب لي مكسّني
ميّح بمرظوف الغشاية عنّي
غرّ مياديله بطيب تبنّي

وكان ابن صبيح من الملازمين للشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم حاكم دبي الأسبق - رحمه الله - وكان وفياً له ولصحبته، حيث أخذ على نفسه عهداً بعدم كتابة الشعر بعد رحيل الشيخ راشد، وظل متمسّكاً بهذا العهد إلى آخر حياته، أما الأبيات التي كان يرددها في المجالس، فتعود لعهود قديمة، وكان يسوقها في أوقات الذكرى والحنين للأيام السالفة، ولابن صبيح قصائد كثيرة تصف صحبته وسعادته في مجالسة الشيخ راشد والتمتع بحديثه واستحضار مزاياه، وله قصيدة شهيرة بعنوان: «حفْيَت عيوني» يرثي فيها الشيخ راشد، يقول فيها:

حِفْيَت عيوني م التعابير                         وأبات كنّي فوق ميمار
وما بي من صروف ومخاسير                ولكن بي من وادع وسار
هالوا عليه من الدعاثير                  حدّ باليمين وحدّ باليسار
وعساه في الجنّة بتكرير                       ومديم فيها ليل ونهار
وياما ركب خيل مغاتير                    ويا ما ركب من شقر لبكار
ويا ما ربت عينه على الطير             وقت الهدد من كفّ صقّار

وهنا يصف ابن صبيح المصاب الجلل الذي أدمى فؤاده بعد رحيل أعز الناس إليه، وأقربهم إلى قلبه، وكيف أنه أصبح عاجزاً عن التعبير، وفاقداً للكلمات القادرة على مجاراة حزنة وخسارته إثر هذا الفقدان المرير، الأشبه بنيران الجمر وشدّة لهيبه، ويستعيد ابن صبيح في القصيدة مهارات الشيخ راشد في تعامله مع الخيول والإبل وصيد الصقور، متمنياً للراحل السعادة الأبدية في جنة الخلد، ومستوحشاً في ذات الوقت غيابه عن الدنيا، وتركه لفراغ هائل، لا يسدّه أحد.

 الصدى الوجداني

للشاعر ابن صبيح العديد من القصائد الغزلية المرهفة، وذات الصدى الوجداني اللافت والأخّاذ، الذي يتأنس بالمفردة البدوية الأصيلة، ويزخرفها بالأوصاف الدقيقة، والمعاني الرائقة، والتكوينات البديعة شكلاً ومضموناً، وظاهراً وباطناً، ومن إحدى قصائده الغزلية اللافتة، تلك التي يقول فيها:

بي معسول الشفاتي
مدلّي السيقان
وان كفّا بخطواتي
له في الحشا ميدان
وإن عاين بالتفاتي
ريم على كثبان
معزول من القطاتي
والخدّ له رويان

وهنا يظهر أثر الطبيعة التي ترعرع في أعطافها ابن صبيح على شعره، فأصبح ذكر أوصاف المحبوب متداخلاً ومتمازجاً مع جماليات البيئة الموزعة على جانبي البادية والصحراء، وهذا التناغم الملحوظ في الشعر الغزلي، الذي كان ينتجه ابن صبيح، يدلّ على قدراته التعبيرية في إنشاء جملة من الأبيات المتماسكة والمعنيّة بالربط بين الدالّ والمدلول، فيما يشبه التماهي والذوبان بين الكلمة في تكوينها اللفظي وبين أبعادها البصرية الملموسة من جهة، وعمقها الرمزي والتأويلي من جهة أخرى.

الخوانيج
ولد ابن صبيح في منطقة الخوانيج بدبي، واختبر في صغره طقوس الحياة في البادية، الممتدة من «الطفّ» جنوباً، إلى «الفقع» و«ومرقب» و«العوير» و«مشرف» وجال - كما يذكر الباحث الدكتور راشد المزروعي - متنقلاً مع أهله أيام الحيا والأمطار، حتى أنهم كانوا ينجعون إلى المناطق الأخرى في الإمارات، بحثاً عن الكلأ والعشب لحلالهم وإبلهم.

«حلو التباريح»
للشاعر الكبير محمد بن سعيد بن صبيح الفلاسي ديوان وحيد هو: «حلو التباريح»، صادر عن دار التراث الشعبي في العام 2018 ضمن سلسلة: «شعراء من الإمارات»، وحقق الديوان وراجعه الباحث الدكتور راشد المزروعي، الذي يذكر في مقدمته أن الشاعر ابن صبيح من رجالات دبي، وأحد أعمدة مجلس شعراء تلفزيون دبي، وكان ضمن المؤسسين الأوائل لهذه النوعية من البرامج الشعرية مع المرحوم الشاعر حمد خليفة بوشهاب، والشاعرين حمد، ومحمد بن سوقات، والشاعر الجمري، والشاعر معيوف بالهلّي، وغيرهم من شعراء الجيل الماضي.
 ويشير المزروعي إلى أن ابن صبيح اشتهر في هذه البرامج التلفزيونية، وكان محبوباً من جميع المشاهدين، لما كان يتميّز به من طريقة خاصة في إلقاء الشعر، وتحديداً عندما كان يلقي تغاريده الجميلة، وكان شعره لا يخلو من مفردات وكلمات فكاهية تحبّب المشاهد والمستمع الإنصات إليه، واستقبال قصيده بشغف ورغبة، وأنه يغلب على شعره أسلوب الردح المحبّب والجميل للاستماع والغناء، كما برع في قول التغاريد، وكان هو الشاعر الوحيد بين شعراء المجلس الذين امتازوا وتخصصوا في قول التغاريد، وأطرب المشاهدين بها، وحازت قصائده وتغاريده في الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم على نصيب كبير من شعره وفي الشكاوى، تشاكى مع صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، ومع الشاعر محمد بن سوقات، والشاعر معيوف بن هلّي، والشاعر علي بن رحمة الشامسي، وغيرهم.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©