الثلاثاء 23 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
الترفيه

الغزالي.. «حجّة الإسلام»

الرسمة متخيلة من وحي الموضوع ولا تمثل الشكل الحقيقي للشخصية
6 مايو 2020 00:39

حسين معلوم, كاتب وباحث مصري

«نحتاج إلى لحظة تأمل في تراثنا الحضاري الإسلامي.. لحظة ندرك من خلالها هذه اللمحات المضيئة التي أسهم بها العديد من المفكرين العرب والمسلمين من خلال علمهم وأفكارهم، لا لكي نرتكن إليها، ولكن من أجل الاسترشاد بها في الاستعداد للمستقبل والتميز في الحاضر، والانطلاق من المفيد منها أولاً، ونتائج منجزات العصر ثانياً».

الغزالي، محمد بن محمد بن أحمد الملقب بـ«أبي حامد»، والمعروف بـ«حجّة الإسلام» ولد بطوس من أعمال خراسان (عام 450 هـ)، وتربى تربية صوفية في بيت متصوف صديق لوالده؛ وقد تتلمذ على بعض فقهاء عصره، ومن أشهرهم إمام الحرمين أبو المعالي الجويني. ولما اشتهر علمه، عهد إليه الوزير المشهور «نظام الملك» بالتدريس في مدرسته المعروفة بـ«النظامية» في بغداد «عام 484 هـ».
وكان الغزالي، إبان مراحل حياته، قد حصَّل كثيراً من العلوم وتعمّق فيها؛ ومن بين هذه العلوم: الفلسفة، ولكنه لم يتوصل من هذه العلوم على اختلافها إلى ما فيه راحة نفسه، واستبدّ به القلق النفسي والشك إلى حد أدى به إلى أزمة روحية عنيفة، وصفها لنا وصفاً شيقاً في كتابه «المنقذ من الضلال».
ولعلَّ أهم نتائج هذه الأزمة، انصراف الغزالي عن تدريس ما كان يدرسه من علوم، وأقبل على العزلة عن الناس صارفاً النظر عما حققه من شهرة واسعة وجاهٍ ونفوذ. وهكذا، تبدت نزعة التصوف عند الغزالي وآمن بأن: «الاتجاه إلى الله هو الدواء الشافي» لأزمته.
وكان الغزالي مفكراً خصباً في إنتاجه، واسع الثقافة. فقد ألّف عدداً ضخماً من الكتب والرسائل، قدّرها بعض الشراح بما يقرب من «ثمانين». وهي في مجالات متعددة: كالفلسفة «مقاصد الفلاسفة، وتهافت الفلاسفة»، وعلم الكلام «الاقتصاد في الاعتقاد، وإلجام العوام عن علم الكلام»، والفقه «الوسيط، والبسيط، والوجيز، والخلاصة»، والمنطق «معيار العلم».
أما كتبه -ورسائله- في التصوف، فهي كثيرة، ولعل من أهمها: «إحياء علوم الدين» الذي شرح فيه بالتفصيل مذهبه في التصوف، رابطاً إياه بالفقه والأخلاق الدينية؛ وكذلك كتابه: «المنقذ من الضلال»، الذي صور فيه حياته.
وينتمي الغزالي كفقيه إلى «الشافعية»، وكمتكلم إلى «الأشاعرة»، وبالرغم من نقده للمتكلمين، يظل، حتى بعد تصوفه، متكلماً أشعري العقيدة «إذ، يعتبر من أئمة الأشعرية من أهل السنة». وهو يقيم تصوفه على أساس دائم من الفقه وعلم الكلام معاً.
وبناءً على ذلك، تنشأ تصورات الغزالي للنص القرآني، ولأهدافه وغاياته، من منطلقين اثنين: الأول، من تصور الأشاعرة للقرآن الكريم بوصفه «صفة» من صفات الذات الإلهية؛ في حين يتحدد منطلقه الصوفي، من حصر غاية الوجود الإنساني على الأرض، في تحقيق الفوز والفلاح في الآخرة. وإذا كانت هذه الغاية يمكن الوصول إليها، وتحقيقها، عبر تحقيق الوجود الإنساني الأمثل في الواقع والمجتمع؛ إلا أن الغزالي يرى أن تحقيقها لا يتم إلا عبر الزهد في الدنيا والانقطاع إلى الله سبحانه وطرح كل ما سواه.
وقد سجل الغزالي وصفه لطريق التصوف في كتابه: «إحياء علوم الدين»، بحيث يمكن القول: إن هذا الكتاب كله وصف لـ«طريقته الصوفية». ولذا، يقسم كتابه إلى أربعة أجزاء: العبادات، والعادات، والمهلكات، والمنجيّات.
ويقوم مفهوم «الإحياء»، عند الغزالي، على اعتقاد مؤداه العودة إلى الماضي لحل معضلات ومشكلات الحاضر. وبذلك، يكون الحاضر، في هذا الاعتقاد، أنموذجاً للضعف والانحراف عن المعايير الأصيلة لـ«الدين»، في حين يكون الماضي أنموذجاً للطهارة والنقاء وتحقيق الوجود الفعلي للوحي.
أما «العلوم»، فهي تنقسم، عند الغزالي، إلى نوعين: علوم الدين وعلوم الدنيا. ثم، يأتي تصوره لـ«الدين» بكونه الخلاص «الفردي» في الدنيا والآخرة.
وفي ما يبدو، فإن تصنيف الغزالي للعلوم بهذا الشكل، إنما يُعبر عن الثنائية الحادة في تصوره للعلاقة بين الدنيا والآخرة. ورغم أن القرآن الكريم لا يضع مثل هذا التعارض الحاد بينهما؛ بل، يطلب من المسلم «ألا ينسى نصيبه من الدنيا»، إلا أن الغزالي يُعبر عن تصوره للتعارض الحاد بينهما، بحيث يستحيل جمعهما، ويجعل من هكذا تصور الحد الأدنى من العلم؛ ذلك الذي ينبني على أن «الدنيا مجرد معبر وطريق إلى الآخرة».
ولعل الملاحظة الأهم، في هذا المجال، هي ما قام به الغزالي من «تقسيم آيات القرآن»، وتشبيهها بـ«الجواهر»، إذ نراه يقول: «معرفة الله تعالى وذلك هو الكبريت الأحمر، وتشتمل هذه المعرفة على معرفة ذات الحق ومعرفة الصفات ومعرفة الأفعال. وهذه الثلاثة هي: الياقوت الأحمر فإنها أخص فوائد الكبريت الأحمر. وكما أن لليواقيت درجات فمنها الأحمر والأكهب والأصفر، وبعضها أنفس من بعض، فكذلك هذه المعارف الثلاثة...».
ومن المنطقي، بعد تقسيم الآيات القرآنية، أن يتبع ذلك «تقسيم الناس»؛ إذ، لما كانت الدنيا مجرد معبر للآخرة، فإن عمارة الدنيا هي مقدمة لعمارة الآخرة، وبدلاً من أن يكون الخلاص الأخروي نتيجة لفعل الإنسان في «عمارة الأرض» وتحقيق وجوده فيها، صار تقسيم الناس هو الحل. ومن ثم، صار الناس عند الغزالي منهم العامة ومنهم الخاصة. و«الخاصة»، من منظوره في التصوف، هم أرباب المقامات والأحوال، السالكون إلى الله عبر التخلي عن مطالب الدنيا. وهكذا، صار هناك «أهل الدنيا» وهم، كما يرى الغزالي، أهل الظاهر الذين يكفيهم الإيمان العادي ليحقق نجاتهم من العذاب ويوصلهم إلى النعيم «المادي»؛ وهناك «أهل الآخرة»، وهم أهل الباطن الذين يعانقون الحقيقة ويفنون فيها، فيفوزون بالنعيم الدائم.
ولعلَّ القارئ لكتاب الغزالي «إحياء علوم الدين»، يمكن أن يلاحظ نقطتين أساسيتين:
الأولى، أن الغزالي يتميز عما سبقه من الصوفية بأنه جعل التصوف طريقاً واضح المعالم والحدود. وهو يرى أن أداة المعرفة الصوفية هي القلب، وليست الحواس ولا العقل. والقلب عنده كالمرآة، والعلم هو انطباع صور الحقائق في هذه المرآة، فإذا كانت مرآة القلب غير مجلوّة، فإنها لا تستطيع أن تعكس حقائق العلوم. والذي يجعل مرآة القلب تصدأ هي شهوات البدن. وبالتالي، فإن الإقبال على طاعة الله والإعراض عن مقتضى الشهوات، هو الذي يجلو القلب ويصفيه.
والثانية، أن الغزالي يُميز بين «الكشف» عند الصوفية، وبين «وحي» الأنبياء؛ فيرى أن معرفة أولياء التصوف تتم بلا واسطة من حضرة الحق «الله سبحانه وتعالى»، وهي «الإلهام» الذي لا يدري الصوفي كيف حصل له ولا من أين جاء إليه، في حين أن معرفة الأنبياء وحي يحصل للنبي، ويدري النبي سببه، وهو نزول «الملك» عليه. ومع ذلك، فإن كلاً من النبي والولي موقن بأن العلم في الحالين هو من الله سبحانه وتعالى.
ونتيجة لهاتين النقطتين، يرى الغزالي أن تعبير المتصوف عن «حقائق التوحيد» صعب للغاية، ولا تصلح له اللغة العادية. ورغم أن الغزالي بوجه عام يتميز بوضوح الأسلوب، إلا أن ذلك يبقى في نطاق المعاملة. أما «علم المكاشفة» فليس إلى تدوينه من سبيل.
ولذا، يرى الغزالي أن «علم المكاشفة» علم خفي لا يعلمه إلا «أهل العلم بالله»؛ وبالتالي، فإن أصحابه يستخدمون رموزاً خاصة، ولا ينبغي التحدث فيه خارج نطاق أهله. وهكذا، يرى الغزالي ضرورة التزام السالك «الصوفي» بالأخذ عن «شيخ»، فمن: «لم يكن لديه شيخ يهديه، قاده الشيطان إلى طرقه».
ولعلَّ أهم ما يمكن أن يُقال عن الغزالي، رغم ذلك، ويُثير الإعجاب، في آن معاً، أنه: لم يكن، فقط، صوفياً إيجابياً «عُني بشؤون عصره وتفاعلات ما تضمنه من أفكار».. ولكنه، إضافة إلى ذلك، كان أيضاً مفكراً عاش آراءه، ويعتبر تصوفه صورة لحياته، وحياته صورة لتصوفه، سواء بسواء.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©