الإثنين 29 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

«بيونغ شول هان».. ومجتمع الحداثة المتأخرة!

«بيونغ شول هان».. ومجتمع الحداثة المتأخرة!
22 فبراير 2024 01:00

الفاهم محمد

بيونغ شول هان Byung-Chul Han فيلسوف ألماني من أصول كورية جنوبية. ولد بسيئول سنة 1959 وهاجر إلى ألمانيا خلال الثمانينيات حيث درس الفلسفة والأدب واللاهوت. ويمكن تصنيفه ضمن اتجاه ما بعد مدرسة فرانكفورت، فهو يمزج بين الفلسفة الغربية والشرقية بأسلوب بسيط ولكن في الآن ذاته عميق. وتتركز أعماله حول تحليل نتائج الثورة الرقمية، وما لازمها من ظواهر مرَضية جديدة، واصفاً حالة «التعب» و«الاحتراق النفسي» غير المسبوق الذي يعيشه العالم ابتداء من الألفية الثالثة. 
ومن أهم أعمال هذا الفيلسوف: مجتمع الاحتراق النفسي 2015، ومجتمع الشفافية الذي صدر أيضاً في السنة نفسها. وكذلك معاناة إيرويس 2017، وطوبولوجيا العنف 2018، إضافة إلى العديد من الأعمال الفكرية الأخرى التي بلغت لحد الآن 20 كتاباً وأهلته لكي يصبح منظراً ثقافياً متخصصاً في تحليل تناقضات وأمراض ما يسميه بمرحلة الحداثة المتأخرة.

السلبي والإيجابي 
ويؤكد بيونغ شول هان أن ما يميز عصرنا ليس الأمراض الفيروسية على رغم انتشارها الملحوظ، ولكن بالأحرى ما يهدد المجتمع الإنساني أكثر حالياً هو الأمراض التي تهجم على الخلايا العصبية! وفي هذا المقام كتب في مقدمة كتابه «الاحتراق النفسي»: «إن الأمراض العصبية مثل الاكتئاب، واضطراب نقص الانتباه، وفرط النشاط، واضطراب الشخصية الحدّية، ومتلازمة الإرهاق، تحدد ملامح علم الأمراض منذ مطلع القرن الحادي والعشرين». وهذه الأمراض تصيب الإنسان إذن بفعل تضخم الذات، المدفوعة إلى تحقيق إنجازات إيجابية ملموسة على أرض الواقع. إن البحث المرَضي عن هذه الإيجابية، من شأنه في نظر الكاتب أن ينعكس أحياناً سلبياً على الإنسان، إن سلك له سلوكاً غير ملائم. والعكس صحيح، أي أن السلبية هي ما يمكن الإنسان من امتلاك الحافز للمضي إلى الأمام. على أن نفهم السلب هنا بالمعنى الهيجلي، أي تلك القوة الدافعة الخلّاقة، التي تحرك الذات كي تتجاوز تطابقها وتتجه لمعانقة الآخر. فلولا هذا السلب إذن لبقيت الذات حبيسة عزلتها، غير قادرة على الانفتاح على ما يخالفها. والسلب بهذا بالمعنى الفلسفي يدل على التناقض والتوتر والحركة والتجاوز، وهي كلها قيم أضحت في نظر شول هان غير مقبولة من طرف الرأسمالية المتأخرة.
ومن الانضباط إلى الإنجازية سيؤدي هذا الطرح ببيونغ شول هان، إلى الدخول في حوار مع أطروحات لفلاسفة ومفكرين آخرين لهم مكانتهم في الفكر المعاصر. فهو يعترض على سبيل المثال على التصور التأديبي، الذي قدمه الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو للمجتمعات المعاصرة. فإذا كان هذا الأخير قد تناول مسألة السلطة الحيوية، وتقنيات المراقبة وترويض الأجساد، فإن شول هان يشير إلى أن قيود الانضباطية، لم تعد تمارس اليوم بشكل فوقي، مفروضة من طرف مؤسسات خارجية. بل إن الإنسان ذاته يميل إلى تحقيق نوع من الإنجازية، والرفع من أدائه وقدراته، كما لو أن الذات هنا تتحمل مسؤولية خلاصها الفردي.

توصيفات سوداوية
وهكذا تظهر سوداوية التوصيفات التي يقدمها شول هان، كما لو أنه يصف عالماً سوداوياً «ديستوبياً». فالحمقى والمرضى النفسيون، الذين تحدت عنهم ميشيل فوكو، والذين كان يتم تجميعهم في المعازل وترحيلهم في سفينة خاصة، من أجل إبعادهم عن المدينة، هؤلاء جميعهم أصبحوا الآن يعيشون داخل المجتمع، وأمراضهم واضطراباتهم صارت تتخذ شكلاً مغايراً. إنهم المكتئبون والخاسرون، الذين لم يحققوا شيئاً في الإنجازية، وغير القادرين على القيام بتأملات عميقة، والمصابون بفرط النشاط والحركة وانتفاخ الأنا واحتشائها، أي امتلائها عن آخرها.
والاستنزاف من العلامات الأساسية للاحتراق النفسي، وهو ما يسميه شول هان «التعب». فالأفراد المندفعون في حمأة تقديم أفضل إنجازاتهم، ربما يجدون أنفسهم متعبين ومرهقين، وقد لا يجدون من وسيلة للتغلب على هذا الإرهاق سوى تعاطي المنشطات من أجل زيادة الأداء، والحفاظ على ارتفاع معدل الإنجازية. 
ويصف الكاتب هذا «التعب» بكونه يتصف بميزة خاصة، فهو ليس فقط محبطاً للذات، بل يدفعها إلى العزلة. بمعنى أن من لم يستطع البقاء في هذا السباق المحموم من أجل تحقيق الإنتاجية المفرطة، فسيجد نفسه على الهامش وحيداً معزولاً، وهو ما سماه بالإعياء الانعزالي. والأنكى من ذلك أنه سيكون غير قادر حتى على رفع صوته، والشكوى من هذا التعب الشديد. فلا أحد اليوم بإمكانه أن يصرخ ويقول: لا، ما دام أن الجميع يردد باستمرار: نعم. أي نعم، أنا أيضاً قادر على إنجاز هذا الأمر، نعم بإمكاني فعله.

حدود الشفافية
إن هذا الاهتياج الذي قد تعيشه الذات، وهي تفرط في تحقيق إنجازاتها، هو ما يؤدي بها إلى الاحتراق النفسي والإنهاك، فلا هي قادرة على تحقيق الرضا عن النفس، ولا هي أيضاً قادرة على قبول الآخر والعالم الذي يرفضها. ولذلك فإن كل ما يفضل لها حسب العبارة البليغة التي ينهي بها شول هان كتابه أنها تصير: «كما الموتى الأحياء، على قيد الحياة لدرجة الموت، وميتون لأقصى درجة من أجل الحياة» (مجتمعات الشفافية القاتلة).
ومن الظواهر المميزة للمجتمع الإنساني المعاصر كذلك الشفافية. هذه الظاهرة التي أصبحت حاضرة في كل مكان، حيث إن كل شيء ينبغي أن يكون واضحاً ومعطى للملاحظة من قبل الآخرين. ويحدث هذا ليس فقط في مجال تدبير الشأن العام، بل أيضاً في مجال تداول المعلومات والعلاقات البشرية. إن ما يسميه الكاتب «عنف الشفافية» يجبر الذوات على أن تفرغ من خصوصيتها، كي تصبح قابلة للاختراق من قبل الآخرين، وعلى أن تكون متاحة للقراءة السهلة. ويشير هنا إلى أن وجود جانب من الغموض الذي تنطوي عليه ذات الإنسان، هو ما يخلق نوعاً من الجاذبية والحيوية في العلاقات البشرية. فلو كنا مثل كتاب مفتوح يمكن للآخرين تصفحه صفحة بعد أخرى، والاطلاع على كل ما فيه، لكانت الحياة مستحيلة. وهكذا أصبح :«مجتمع الشفافية هو الجحيم بعينه»، بحسب تعبيره.

العيش في السحب
ويواصل بيونغ شول هان وصف مسيرة «الاحتراق» و«التدمير النفسي»، التي تعيشها المجتمعات المعاصرة، من خلال التركيز على مآلات العيش في السحب الرقمية. ذلك أن للثورة المعلوماتية في نظره تأثيراً حاسماً على العلاقات الإنسانية، ففي هذا العالم الافتراضي تضيع الهوية، حيث يتم العيش طبقاً لمحاكاة هوية مزيفة أحياناً. وهكذا قد تعمل التكنولوجيا الرقمية إن لم يتم توجيهها بحكمة على تعزيز كل الأمراض التي وصفها شول هان سابقاً. فالحميمية والخصوصية يتم تجاوزهما بسبب انمحاء المسافات بين الأفراد، وكذلك بسبب العري الذي تمارسه الذوات، وهي تكشف عن نفسها أمام القاصي والداني.
لقد تحول العالم إلى مجموعة من البيانات، القابلة للتخزين والمشاركة من قبل الجميع. كما أن طرق التعبير عن الذات، في وسائط التواصل الاجتماعي تغيرت بشكل كبير. مثلاً في هذا العالم الذي انمحت فيه المسافات، قد تنمحي أيضاً الأخلاق ما دام الفضاء الافتراضي مجالاً للفضائح والتطفّل على الخصوصيات والعزلة.

التقاطات لمّاعة
ومن دون شك، كانت بعض الالتقاطات التي قام بها بيونغ شول هان، لمّاعة جداً في توصيف الخيبات، التي يعيشها أحياناً المجتمع الإنساني في مستهل الألفية الثالثة. إن الرسالة التي يحاول الكاتب إيصالها هي أن الثورة المعلوماتية ليست بالضرورة بريئة كما يمكن أن نظن، بل إنها قد تحمل تحديات كثيرة، سواء على الفرد أو على المجتمع. فالشفافية التي تدعيها لا علاقة لها بالديمقراطية، لأنها ليست سوى تحكمات خفية تمارسها على الأفراد، مسببة لهم إحباطات واحتراقات نفسية. ومن ناحية أخرى، قد تبدو أيضاً هذه الانتقادات التي يوجهها شول هان للمجتمعات المعاصرة، قريبة من الانتقادات التي وجهتها مدرسة فرانكفورت للحداثة الغربية. وهذا صحيح إلى حد بعيد. ولكن في الآن ذاته وكفيلسوف تعود أصوله إلى كوريا الجنوبية، تبدو ظلال الفلسفة الشرقية البوذية والطاوية حاضرة أيضاً في فلسفته. وليس أدل على ذلك من حديثه عن قيمة التأمل في «الزن»، لإعادة الهدوء والسكينة، إلى هذا الإنسان المعاصر إن ضاعت بوصلته. ومن هنا فإن البديل إذن الذي يطالب به شول هان، لن يكون شيئاً آخر سوى إيقاظ القدرات الإبداعية لدى البشر، وتنمية مهارات التحليل والنقد، وامتلاك الحوافز الذاتية، بدل الانحدار إلى هذه الإيجابية المزعومة والضارة أحياناً، المفروضة ثقافياً بشكل مفارق للواقع.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©