الأحد 28 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

زهران القاسمي.. وشعرية السرد الملهمة

زهران القاسمي.. وشعرية السرد الملهمة
8 فبراير 2024 01:11

نوف الموسى 

كان لابد أن نتفق في حديثنا الصحافي عبر «الاتحاد الثقافي»، مع الشاعر والأديب العُماني زهران القاسمي على أن للشعر ضريبة في الإبداع الإنساني، تُدفع بشكل تدريجي من خلال السرديات المفتوحة في الروايات الأدبية، أيّ أن المشروع الاستثنائي في الحكاية، إنما هو قصيدة طويلة تبحث في البنى الاجتماعية بوصفها رمزيات تفتح لنا أبواب السؤال عن المعنى في الوجود العائم عبر المخيال الإنساني. 
وتجلى ذلك قبل أن أبدأ سؤالي الأول عن روايته «تغريبة القافر» الفائزة بالجائزة العالمية للرواية العربية لعام 2023. وقد عَرف حينها الكاتب زهران القاسمي نفسه بالشاعر الذي كتب عشرات الدواوين، لتأتي بعدها الرواية ببساطة وخفة لإحداث ما أسماه الامتداد المسكون بعفوية الطريق لاكتشاف المكان والحياة، فالحكاية بالنسبة له سرد مائي يشق طريقه لوحده، مثلما هو ماء المطر في البرية، وتكمن قوة الرواية في انتصارها الدائم للمكان، فلا يُمكن إغفال ذلك المحيط المتباين والفضاء التضاريسي المُشكّل للأحداث، بل هي كما وصفها جوهر التضامن الذي يبديه القارئ، عبر معايشته الخاصة للمضامين المروية في الرواية، وقد تختلف التجربة بين القراء، إلا أن أسمى ما يوده الكاتب، كما أشار زهران القاسمي، هو ذاك الوعي بكيفية تحريك العلاقة بين القارئ والموجودات اللحظية في الحكاية. 
وبغض النظر عما تدور حوله الأحداث، فإنه يحدث أن يشارك القارئ في تجسيد هذا المخيال والارتباط به، وتوسيع مساحات حضوره في الذهنية الفاعلة في المجتمع، وتحقيق مرادها في أن نكون جميعاً اشتركنا في معايشة أدبية رفيعة، من شأنها أن تحفظ طبيعة الكيان الإنساني، وتدرك إمكانياته القائمة على التنوع والتعدد، والانفتاح على ظواهره في مختلف البيئات والمجتمعات الإنسانية.

إيقاعات السرد
«التجريب»، يمثل الحالة المستمرة لرغبة روح المبدعين في مجابهة جوهر أفكارهم، وقياس طبيعية فيزياء حركتهم اليومية، وتأثيرها في محيط الحياة الاعتيادية، فمنها تبنى الكاتب زهران القاسمي، قصيدة النثر في مجال الشعر، وإمكانية رسم إيقاعات السرد في داخلها بحرية تامة، فالذهاب إلى كتابة الرواية انطلق معه من خلال مشروع مجموعة شعرية، تتضمن حكايات استمع إليها من قبل كبار السن في قريته «مس» التي ولد فيها، وهي إحدى القرى العُمانية التابعة لمحافظة شمال الشرقية في سلطنة عُمان، وعن ذلك يقول: «كنت أتتبع حكاية الموجودات في القرى، شجرة معينة، جبل تدور حوله الأسئلة، مسجد يحمل إرثاً شفاهياً، فلج وعيون وافرة بالمياه والقصص، حيث أجلس مع كبار السن وأستمع للحكاية وأعيد كتابتها، وهنا تحديداً حدثت النقلة؛ لأني لاحظت أن المروية تتحول إلى قصص قصيرة، نُشرت جميعها في كتاب (سيرة الحجر). ما يجعلني أعود كذلك إلى حادثة من الطفولة، لأحد أصدقائي الذي شاركني لعبة كرة القدم، فقد أصيب في أحد الأيام، بينما كنا نلعب، وفي الحقيقة كان صديقي يافعاً ونشيطاً، وانتبهت وقتها كيف أنه بعمر 17 سنة تقريباً، ربط إصابته بالمكان (الملعب) الذي لعبنا فيه، ليصاب بعدها بمرض السرطان، ويضطر لأن يبتر قدمه، وتوفى رحمة الله عليه. ومن خلال تلك الحادثة استشففت أثر تأملات رؤية الإنسان للمكان وعلاقته بجسده، فقمت بسردها كقصة، في عمود بصحيفة محلية، وجاءتني ردود أفعال من القراء والأصدقاء معجبين بالقصة، إلى درجة أني قررت أن أتوقف وأتفكر بما يمكن أن أحدثه في مجال السرد الروائي والقصصي، ومنه استطعت إنجاز أكثر من 200 قصة ومروية محلية، في هذا المشروع تحديداً، الذي أتمنى استكماله حول حكايات القرى العُمانية».

إرث ثقافي وإنساني
ويهتم الكاتب زهران القاسمي، بالطبيعة كحالة مُلهمة في التشكيل السردي للحكاية، ويفسر ذلك بأن الكتابة فيما يتعلق بتجربته مرتبطة بالحياة التي يعيشها في القرية، فمثلاً في الماضي كان لهم بيتان، بيت للشتاء في الحارة، وبيت للصيف وسط النخيل الذي كانوا ينتقلون إليه وينزلون إلى الوادي ويفترشون العراء وينامون فيه، ومن هنا فإن الطبيعة بكل أبعادها المادية والشاعرية أسست ما يمكن أن نسميه إحساساً بالمسؤولية اتجاهها، فلا يزال الكاتب زهران القاسمي منذ ذلك الوقت، وحتى هذه اللحظة يستيقظ يومياً فترة الفجر، وبمجرد أن يبين الضوء يذهب للمشي نحو الجبل، حتى يحين وقت ذهابه لعمله، موضحاً أن هذا الارتباط بالمكان أثر فيه جداً حتى في القصائد الشعرية؛ ولذلك اختار في الرواية أن لا يخرج عن هذا المكان، مؤمناً بأن فيه مئات الروايات التي يمكن كتابتها، لما للمكان من مخزون مذهل من البشر والحكايات ذات الإرث الثقافي والاجتماعي والإنساني.

ذاكرة المكان
وذكر الكاتب رواية «القناص» مثالاً لجماليات البحث في إرث المكان، لافتاً إلى أن الرواية تدور أحداثها حول قناص وعول، يذهب إلى الجبال من أن أجل أن يصطاد وعْلاً، وقد كان يستمع لقصص أصحاب هذه المهنة، عندما كان صيد الوعول متاحاً، باعتباره أسلوباً للرزق، وبالأخص في مرحلة المجاعات، التي مرت بها المنطقة، إلا أن هناك صعوبات يواجهونها طوال رحلة البحث، فمثلاً أماكن نوم الصيادين أنفسهم في الرحلة، وأين يمكن أن يجدوا تلك الوعول، مضيفاً أنه بعد نشر الرواية، استضاف النادي الثقافي في عمان أستاذاً متخصصاً من البوسنة، لتقديم ورقة نقدية في الرواية، وهو لا يعرفه شخصياً، وفي لحظة اللقاء بينهما، أول ما ذكره الضيف أنه يود الصعود للجبال ورؤية جمال ما وصفه الكاتب زهران في الرواية، ومن وجهة نظره فإنه بذلك قد وصل للقارئ.

فضاء إبداعي مشترك
وتعقيباً على مفهوم الصورة البصرية في الرواية، وأهميتها في تشكيل الوعي العام، أوضح الكاتب زهران القاسمي، أن هناك نقطة مهمة جداً يغفلها كثير من الروائيين في الوقت الحالي، فقد نقرأ روايات من أروع ما يكون ولكنها تغفل تفاصيل المكان تماماً، ويفترض الكاتب زهران أن المقدرة على توصيف المكان، وتحفيز القارئ على بناء فضاء إبداعي مشترك، من شأنه أن يجذر حضور المكان بوصفه مساحة شعورية مشتركة عامة، ينتمي إليها العالم، متجاوزةً الفعل الجغرافي الواحد في النمطية السائدة، إلى مكونات حيّة متنوعة ومتعددة قابلة للفهم والإدراك والتشكيل، فنحن ننتمي لعالم الموجودات التي نشعر بأننا جزء من وجودها، كمن يزرع بذرة ويسقيها، لتكون الشجرة في تلك اللحظة ظلاً وارفاً لكل من يختار الجلوس تحتها، إنه فعل الحياة الحرة اللامشروطة، في عطائها الكوني الأصيل، والإنسان بطبيعته قادر على تميُّز ذلك والإبداع فيه، من خلال إعطائه أشكالاً متعددة، مثلما هي رؤيتنا للحب تماماً.

السرد بالتوازي
وفي سياق الرؤية الشعورية والفكرية للرواية كمنتج إبداعي، يفسر الكاتب زهران القاسمى، أن الكتابة هي فعل فردي مبني على وعي الكاتب، فهناك أشخاص يعملون على الفكر، وفي المقابل هناك من يبني حالة شعورية ممتدة طوال السرد بالتوازي مع المعرفة الفكرية دونما أن يطغي أي منهما على الحكاية، التي هي في أصلها مبنية على التخييل، فالتضمين العلمي والتاريخي والاجتماعي وغيرها، تبقى خلفية مشروعة في السرد، إلا أنه لجذب القارئ الملول أحياناً، الذي قد يمتلك آلاف الخيارات والكتب أمامه، يستدعي الأمر من الكاتب إتقان لعبة السرد في الحفاظ على استمرار حالة الدهشة، بأن تحضر المعلومة وتغيب من غير إقحامها في أن تكون هي أصل الحدث، فعلي سبيل المثال في رواية «تغريبة القافر»، روى الكاتب زهران القاسمي كل ما هو متعلق بالأفلاج من أعمال وحفر وما يفعله الناس وقت الجفاف، بينما ظل القارئ في أساسه يتتبع أحداث الحكاية، ولكن الأشياء كانت بطبيعتها تعبر من خلال ذلك كله، والبديع في الأمر كيف أن الأشخاص بدأوا يسألون عن مواقع تلك الأفلاج، ويقودهم الفضول لمشاهدتها.
ولا يُمكن تجاوز مسألة البنى الأساسية للشعر في حياة الكاتب زهران القاسمي، فهو يُعرّف القصيدة بأنها الهاجس الداخلي الذي لا يمكن تجاوزه إلا بالكتابة، ويكاد لا يعرف معظم الشعراء لماذا يكتبون القصيدة، وكيف تأتيك طاقة تحيلك للكتابة، كأنك شخص لا يمتلك خياراً آخر، إنها بمثابة استشفاء نفسي، معها يشعر الكاتب زهران القاسمي بالراحة والطمأنينة، فالشعر يجعله راضياً عن نفسه بشكل أكبر. ومن بين المشاريع الروائية الجديدة التي أنجزها الكاتب زهران القاسمي، رواية بعنوان «الروع»، نسبة للفزاعات التي يضعها أصحاب الحقول في وسط المحصول، لإبعاد الطيور والحيوانات، و«الروع» يعكس الاسم المحلي لتلك الفزاعات في القرى المحلية العُمانية، حيث تهتم الرواية بطبيعة الحال بالحقول، التي ستشكل الفضاء الإبداعي الذي ترتكز عليه أبعاد سرده الروائي القادم.

حكاء يحب الشعر
في بعد اجتماعي حميمي، بيّن لنا الكاتب زهران القاسمي علاقته بوالده، رحمه الله، الذي كان معلماً للقرية، وكذلك حكاءً ويحب الشعر، حيث كان يقرأ الشعر بحسب تعبير الكاتب زهران بطريقة غنائية، مبيناً أن لنا أن نتخيل تأثير ذلك على طفل، إذ كان مأخوذاً بفكرة أن يقرأ تلك القصائد بعد أن ينتهي منها والده، إضافة إلى كتب ألف ليلة وليلة وغيرها. أما والدته، رحمها الله، فقد امتازت بقدرتها أيضاً على السرد، وهي سمة عامة تمتاز بها النساء في القرى، خاصة مقدرتهن على ربط الأحداث مع بعضها بعضاً وإعطائها معنى ينسجم مع حياتهن وقيمهن وطبيعة رؤيتهن للحياة ككل.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©