الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

كلود ليفي شتراوس.. معلّم هذا العصر

كلود ليفي شتراوس
8 يونيو 2023 01:22

بقلم: نيكول غوتاي وآلان جيرار
ترجمة: أحمد حميدة 

ما الذي قد يحملنا اليوم على الخوض من جديد في سيرة العالم الأنتروبولوجي الرّاحل كلود ليفي شتراوس؟ لا شكّ.. لأنّ فكره لا زال، ولسوف يبقى يستوقفنا، بسعة علمه ورحابة معارفه، بأسلوبه السّاحر في ملامسة حقيقة الوجود، وقدرته الفائقة على بلورة رؤيتنا حول مسألة الآخر والآخرين، مهما تنوّعت أصول هؤلاء الآخرين وتشعّبت انتماءاتهم. 
فهذا الرّجل الذي عمّر أكثر من مائة سنة، يكون عبر القرن العشرين بأكمله متسائلاً، في طلّ التحوّلات التّكنولوجيّة المتسارعة، عن مصير الإنسان في هذا الزّمان. ففي كتاب «المدار الحزين» الذي أصدره سنة 1955، كان أفصح بجلاء عن مخاوفه من الكوارث التي باتت تهدّد البيئيّة، لافتاً انتباه إنسان العصر الحديث إلى حجم الدّمار الذي تُلحقه حضارته الماديّة بالطّبيعة، ولكن أيضاً بالثّقافات الأخرى. 
لقد أحببنا أن يكون هذا المفكّر الاستثنائيّ.. الرّائع، نبّهنا إلى أنّنا في تصوّراتنا وأسلوب تفكيرنا بتنا نشتغل وفق «برنامج» منطوٍ بداخلنا، يحدّد رؤيتنا للوجود ويتحكّم بصورة قاهرة في مواقفنا وتصرّفاتنا، كما أحببنا إقراره بأنّه لا فرق بين إنسان مثقّف وإنسان بدائيّ، وأنّ التّفكير «المتوحّش» ليس بأدنى منزلة من التّفكير المنطقي. فهل يتوفّر ليفي شتراوس حقيقة على مفتاح مسعف للكشف عن أسرار هذا العالم الذي يؤوينا ويُقيتنا؟ 
الحركة البنيويّة 
بالنّسبة للجمهور العريض، سوف يقترن اسمه بحركة فكريّة متكاملة تعرف بالحركة «البنيويّة»، لذا عدَّهُ أغلب المهتمّين بأعماله، قريباً من الآباء المؤسّسين لهذه الحركة أمثال جاكبسون وفوكو ولاكان.. غير أنّ الكثيرين منهم أساؤوا فهم مساهمته في تلك الحركة، وهو الذي أراد فحسب تخليص الأنتروبولوجيا من الأحكام المسبقة، لتأسيس منهاج معرفيّ صارم، قائم على الدراسات الميدانيّة الدقيقة. وقد اتّهم حينها بإهماله الفرد وقدرته على مراجعة البنى التي تتحكّم في سلوكاته، فيما كان الأمر يتعلّق بالنّسبة لليفي شتراوس بالتوصّل إلى علامات انتظام، تستخلص منها بنى، وانطلاقاً من الوضعيّات المدروسة، فهم طريقة تمفصلها. 
حين توفّي كلود ليفي شتراوس سنة 2009 أوردت صحيفة «ليبيراسيون» صورته في غلافها مرفوقة بعنوان كتب بحروف ضخمة «قرن ليفي شتراوس». وكان برنار بيفو قبل ذلك بسنوات قد نظّم في مجلّته «اقرأ» استفتاء لمعرفة من يكون «معلّم هذا العصر»، وجاءت الإجابة شبه مجمعة على أنّه كلود ليفي شتراوس. وكان سارتر قد حاز هذه الصّفة قبله بسنوات. 
نحن بلا شكّ في حضرة شخصيّة مرموقة لا يتمّ ذكرها كثيراً اليوم، ولكنّها كانت وهي على قيد الحياة، شخصيّة فاعلة ومؤثّرة، أحدثت تأثيراً عميقاً في الحياة الفكريّة والعلميّة طيلة النّصف الثّاني من القرن القرن العشرين. يكون من المهم حينئذ أن نتبيّن من هو هذا الرّجل، وما بوسعه أن يقدّمه لنا بعد رحيله. 
لقد ولد كلود ليفي شتراوس سنة 1908، ليغيّبه الموت عن عمر يتجاوز المائة سنة. وبوصفه إثنولوجيّا (إخْتِصاصيّاً بِعِلْم الأعْراق البَشَرِيَّة)، أسهمت أعماله الضّخمة والغزيرة في زعزعة الإتنولوجيا، بل ومجمل العلوم الإنسانيّة إلى غاية اليوم. ومع ذلك.. كان في البداية فيلسوفاً، مبرّزاً في الفلسفة ومدرّساً لها لعدّة سنوات، غير أنّ ذلك الاختصاص لم يكن ليروق له، بل إنّ ليفي شتراوس أضحى ينظر إليها بشيء من الازدراء وذهبّ إلى حدّ اعتبار أن تدريسها أمراً عقيماً ولا طائل من ورائه. وأمّا مجيئه إلى عالم الإتنولوجيا، فقد تمّ بمحض الصّدفة سنة 1924، حين أعلمه أحد أصدقائه بوجود وظيفة شاغرة لتدريس علم الاجتماع بجامعة ساو بولو في البرازيل. ومن ثمّة غدا بإمكانه الاتصال بالقبائل البدائيّة بأمزونيا، التي انبهر بأساطيرها وثقافتها، وتوضّحت هكذا موهبته وتحدّدَ قدَرُه، إذ سيسخّر الرّجل كامل حياته لدراسة أساطير تلك الجماعات البدائيّة التي ظلّت محافظة على تواجدها، خاصّة بالأمركتين، الشّماليّة والجنوبيّة. 
هنا.. لا بدّ لنا من فتح قوس. لقد كان لنعت «البدائيّ» سمعة سيّئة لدي علماء الأنتروبولوجيا، إلى حدّ أنّه تمّ حديثاً تغيير اسم «متحف الفنون البدائيّة» في فرنسا، باسم جديد.. هو «متحف الفنون الأولى». ويُتّهَم هذا اللّفظ بانطوائه على معنى ازدرائيّ، طالما أنّ كلمة «بدائي» تحيل على حالة دونيّة، وتفترض ضمنيّاً تقسيم البشر إلى جماعات بشريّة متفوّقة وأخرى دونها درجة. ولئن أمعن كلود ليفي شتراوس في استخدام ذلك النّعت، فذلك لأنّه بكلّ بساطة لم يعثر على أيّ بديل له.
ذاكرة وعبرة
من إقاماته الأولى، عاد لفي شتراوس بدراسات عن بعض شعوب أمازونيا، قبائل البورورو ونمبيكراوا. وفي سنة 1941، سافر إلى الولايات المتّحدة، وبشكل مفارق.. لم يكن لفي شتراوس رجل ميدان بقدر ما كان باحثاً كثير التردّد على المكتبات. 
لقد أدرج لفي شتراوس طيلة حياته أعماله تحت علامة البنويّة. وأساس هذا التيار نظرية مفادها، أن العالم لا يتألف من عناصر أو وحدات ذات وجود مستقل أو منفرد، وإنما من وحدات توجد ضمن بنية أو نسق عام يضبط علاقاتها المتبادلة لتكتسب معنى وقيمة، إضافة إلى خاصيتها الفردية. وتفقد هذه الوحدات معانيها وأهميتها خارج إطار هذا النسق أو البنية. ولا يبحث البنيويون في خصائص الوحدات والأجزاء أو محتواها، وإنما في علاقة الأجزاء فيما بينها بقصد الكشف عن وحدة العمل الكلية أو النسق. وقد اعتمدت هذه النظرية لتطبّق في جميع المجالات، وخاصة منها العلوم الإنسانية والفيزيائية. وقد أكّد لفي شتراوس بأنّ البنيويّة قد أفادته كثيراً في دراسة الأساطير. وكان أعظم المفكّرين (بين 1950 و1970) قد أعلنوا انتسابهم إلى البنيويّة: فوكو، موران، لاكان، بياجي، ألتوسّير، بارت. والحقيقة أنّ البنيويّة غدت حينها أقرب إلى الموضة منها إلى النظريّة الصّارمة التي كنّا بصدد تعريفها، حتّى أنّ لفي شتراوس سرعان ما تخلّى عن تسمية فكره الأنتروبولوجيّ بالبنيوي. 
و لكن.. ما تكون حقيقة الأسطورة وفق منظور لفي شتراوس؟ نجد لدي لفي شتراوس هذا التّعرف الأوّل «الأسطورة.. قصّة تعود إلى زمن كان البشر خلاله يتحدّثون مع الحيوانات». هي حينئذ قصّة، قصّة قديمة تحمل ذاكرة وعبرة ما، غالباً ما يتمّ الإفصاح عنها بلغة تصويريّة خارجة عن الواقع المعاصر. وكان ليفي شتراوس يرى فيها عناصر كاشفة لحياة تلك المجتمعات النّائية، ولطبيعة حياتهم الاجتماعيّة وطريقتهم في التّفكير، فبحث عن علامات وعن آثار في طريقة تفكيرهم، تكون مختلفة عن تلك المألوفة في العالم المتحضّر، وجمع منها الآلاف، ثمّ قام بتحليلها والمقارنة بينها وتصنيفها.
رؤية جديدة للآخر
منحنا ليفي شتراوس رؤية جديدة للآخر، أي تصوّر لثقافة مغايرة ولنمط آخر من التّفكير. لقد برهن على أنّ ثقافتنا ليس بوسعها ادّعاء التفوّق على بقيّة الثّقافات الأخرى، وأنّ كلّ منّا بحاجة إلى أن يتعلّم من الآخر والاستفادة من معارفه. ومسألة «الآخر» مسألة فلسفيّة قديمة، ولكنّها في الحقيقة لم تحسم حتّى من قبل المفكّرين المحدثين. وقد عبّر عنها سارتر بالنّظرة، وهو القائل.. «أنا أعرف الآخر حين أنظر إليه». ولكنّ الآخر يفعل نفس الشّيء، بشكل يجعل منّي ناظراً يَنظُر إليه آخر.. يكون هو بدوره منظور إليه. ويعبّر ليفيناس عن ذلك بالوجه، الذي نعثر فيه على آخرٍ غيرنا.. آخر نتماهى معه. ولكن بمثل هذه الرّؤية الفلسفيّة يكون الآخر دوما هو شبيهي. فالنّاظر-المنظور إليه هو دوماً إنسان يشبه ذاته، ويفكّر كما يفكّر هو ذاته. ولأوّل مرة يغدو النّاظر-المنظور إليه أو الوجه.. آخر حقيقيّ، آخر يختلف عنّي تماماً، ويفكّر بطريقة مختلفة عن طريقتي أنا في التّفكير. وذلك تجديد هامّ في مجال الفلسفة، وأسلوب في التّفكير يتيح للإنسان معرفة ذاته بذاته.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©